المسرح البلدي بتونس.. أو حينما تصبح معلمة ثقافية شاهدة على أزيد من قرن من التحولات

0 418

رغم صروف الزمن، يقف المسرح البلدي بتونس، وقد تجاوز عمره القرن بأزيد من عقد، شاخصا وشاهدا، على تحولات عميقة، لم يقتصر أثرها على مجال الإبداع المسرحي والثقافي، بل تجاوزها ليطال المجالات كافة.

ففي القلب النابض لتونس العاصمة، ووسط شارع الحبيب بورقيبة، الذي كان يحمل في عهد الحماية الفرنسية اسم شارع جول فيري، ينتصب المسرح البلدي، الذي افتتح في أحد أيام نونبر 1902، في مكان لا تخطئه العين، بفعل طابعه المعماري الفريد والعريق الذي ينتمي إلى عصر آخر.

الداخل إلى المسرح البلدي في تونس تغمره هيبة المكان، ويلاحظ على الفور ذلك التشابه مع مسارح أوروبا العريقة بفضل ديكوره الإيطالي وأقواسه وأضوائه وزخارفه. ولا يتردد الكثيرون في القول إنه يعد من المسارح النادرة، وتحفة أثرية قيمة.

صمم هذه التحفة المعمارية، التي لا تقل بهاء عن المسارح الكبرى الشهيرة، المهندس الفرنسي جان إميل رسبلندي، فيما تولت بناءه مقاولات إيطالية، ليصبح موئلا لا محيد عنه لأبرز الأنشطة المسرحية والموسيقية في البلاد، حيث ظل ركحه شاهدا مع توالي السنين على أعمال مسرحية وفنية راسخة في تاريخ الحياة الإبداعية في تونس، وأجيال من المبدعين التونسيين والأجانب.

ويعود لهذه المعلمة المسرحية والمعمارية الكثير من الفضل في جعل أجيال من التونسيين تكتشف مختلف ضروب الإبداع من أوبرا وبالي وموسيقى كلاسيكية ومسرحيات، حيث قدمت على خشبة هذا المسرح العديد من الأعمال المسرحية الشهيرة التي أبدعها فنانون كبار من تونس والعالم العربي والعالم.

وشكلت أكثر أعمال الأوبرا شهرة مادة للعروض خلال المواسم الأولى للمسرح البلدي بتونس، الذي احتضن في السنوات الأولى بعد بنائه عروضا لفاغنر، وفاردي، وماسيني وغيرهم…

أما في ما يخص الأعمال المسرحية، فإن العارفين بتاريخ المسرح في تونس يشيرون بالخصوص إلى أعمال ساره برنهار وأشهر أعمال التراجيديا والكوميديا الفرنسية في تلك الفترة من مطلع القرن الماضي.

وكان المسرح البلدي في تونس شاهدا أيضا على حضور نجوم السينما والمسرح من العالم العربي مثل يوسف وهبي وزكي طليمات الذي تولى لعدة سنوات إدارة فرقة مدينة تونس للمسرح. كما شهد هذا المسرح زيارة للموسيقار فريد الأطرش.

ويشير المهتمون بتاريخ المسرح في تونس إلى الصفحات التي دونها الفنان علي بن عياد مدير فرقة مدينة تونس للمسرح في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، التي شهدت عرض أعمال مسرحية شهيرة من قبيل أعمال شكسبير وألبير كامو وغيرهما.

وتميزت فترة السبعينات بعرض أشكال مسرحية جديدة في فضاء المسرح البلدي، مثل تجربة المسرح الجديد الإبداعية وأعمال من قبيل مسرحية “يوليوس قيصر” لفرقة مدينة تونس.

وعلى الرغم من كون المسرح البلدي خضع للترميم في عدة مرات وأضيفت إليه المزيد من المقاعد، إلا أنه ظل محافظا على هندسته الإيطالية الأصيلة، ما جعله يحتفظ بقيمته الرمزية من خلال طابعه المعماري المتميز.

ولعل المثير في الأمر أن المسرح البلدي لم يكن مجرد مبنى يتميز بأسلوب تصميمه المعماري، بل إنه لعب دورا على مستوى التعبير وتكوين فرق مسرحية وسطوع نجم عدد من أعمدة المسرح التونسي فضلا عن بث الوعي السياسي خلال فترة الاستعمار وما بعدها.

ومن اللحظات المؤثرة في تاريخ هذا المسرح كون ركحه شهد وفاة الفنان التونسي علي الرياحي الذي كان يتمنى أن يكون موته فوق خشبة المسرح.

وكتبت أيام قرطاج المسرحية الذائعة الصيت وكذا أيام قرطاج السينمائية والموسيقية، وغيرها من المهرجانات، أولى صفحاتها على خشبة هذا المسرح الذي أصبح يشكل مصدر اعتزاز بالنسبة للفنانين الذين يقدمون عروضهم فيه.

وفي سنوات الثمانينات عرضت بهذا الفضاء مسرحيات شهيرة لشركة فاميليا مثل “عشاق المقهى المهجور” ، و”سهرة خاصة”، ومسرحية “جنون”، وغيرها.

وخلال الموسم الثقافي 2002-2003 الذي صادف مائوية المسرح البلدي، خضع المبنى لأشغال ترميم نفذتها بلدية تونس بالتعاون مع جمعية صيانة المدينة وبمساهمة مالية من الجمعية الدولية لرؤساء البلديات ومسؤولي المدن الناطقة جزئيا أو كليا بالفرنسية، مما أتاح له مواصلة دوره الإشعاعي باحتضان التظاهرات والعروض الفنية والموسيقية والأعمال المسرحية.

وفي مطلع عام 2016 أغلق المسرح البلدي مجددا، من أجل أعمال صيانة وترميم أخرى على مدى أزيد من عام، فافتقدته الساحة الثقافية وكأن فترة الإغلاق تلك دامت سنوات، قبل أن يعود في حلة جديدة ويستعيد ربط الصلة مع الجمهور في التظاهرات الثقافية والمهرجانات الكبرى التي استعادت بدورها بهاءها وتألقها.

وقد اكتسب المسرح البلدي بالعاصمة التونسية، الذي أقيم خارج أسوار المدينة العتيقة، دلالات رمزية خاصة بعد ثورة 2011، إذ ان الكثير من الوقفات والاحتجاجات باتت تنطلق من أمامه، وكأن الداعين إليها يريدونه أن يكون شاهدا حكيما على تونس الحديثة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد