نساء “محو الأمية”.. النجاح المؤنث بصيغة أخرى (ربورتاج)
وسط الصفوف، ارتخت طفلة رضيعة على مهدها المتحرك، تتفحص وجوه النساء هنيهة، ثم يرتد بصرها – فجأة – نحو المعلمة، في أحد الفصول الدراسية بمدرسة أحمد مكوار بوجدة حيث كانت عيون النساء مشدودة إلى السبورة، تتهجى الحروف المرسومة على اللوحة السوداء. وبين الفينة والأخرى، تمتد يد الأم نحو الرضيعة، في حركة آلية، تغطي القدمين الصغيرتين. “لدي ابنة أخرى، عمرها سبعة أعوام. وآتي إلى هنا، رفقة بنيتي هذه، لأستفيد من دروس محو الأمية”، تقول الأم ذات الستة والعشرين ربيعا.
في حجرة الدرس نساء من أعمار مختلفة. لم تمنعهن مشاغل الحياة من ارتياد الفصل الدراسي. يتابعن، باهتمام، حركات المعلمة وسكناتها. ويكتبن على الألواح الصغيرة بشغف ظاهر. “لي ما قرا ما عندو حياة”، تقول إحداهن بلهجة مغربية جميلة.. ثم يسود صمت مطبق حجرة الدرس. آن أوان الامتحان! رفعت المعلمة يدها عاليا، كأنها تستحث انتباه النساء، ثم قالت “باء وياء وتاء”. هي كلمة “بيت”. هزت النساء رؤوسهن موافقات، ثم تسللت إحداهن، من بين الصفوف، في خجل جلي، وكتبت الكلمة السحرية على السبورة. بدت منتشية بالإنجاز الكبير، وسرت بين الصفوف همسات إعجاب غير معلن. وعلى الرغم من أن التحاق النساء بمقاعد الدرس لم يكن بالانتظام المرجو لأسباب لا يتسع المقام للتفصيل فيها، كما يفيد بذلك يوسف سالم، مدير مدرسة أحمد مكوار بوجدة، فإن المؤسسة لا تنفك تحتضن دروس محو الأم بشراكة مع عدد من الجمعيات. غير أن ثمة حاجة ملحة إلى بذل جهد مضاعف لتوفير الكتاب المدرسي وتشجيع المؤطرات، لا سيما من حيث الرفع من التعويضات، بحسب تأكيد المتحدث ذاته.
كان الهدوء المسائي يضفي على المؤسسة التعليمية هيبة ورهبة. وكأي تلميذات مجتهدات، تصغي النساء في انتباه. لا ضجيج ولا جلبة، إلا من زقزقة عصافير تنبعث من ساحة المدرسة. “خلقنا الله لنعيش.. ونتعلم”، تقول سيدة خمسينية لم تحل الحوائل بينها وبين السعي إلى التعلم. “ابني البكر عمره ستة وعشرون عاما. شخت ولا أزال أحمل اللوحة”، تسترسل في الحديث ضاحكة.
لكن التقدم في العمر لم يكن العائق الوحيد الذي انتصرت عليه هؤلاء النساء. ثمة عائق أخطر: المرض المزمن، تؤكد المؤطرة شيرين رمياني. على المقعد الأول، يمين حجرة الدرس، اتخذت السيدة سليمة مكانها التي تبدو للوهلة الأولى (58 عاما) مثل الأخريات، امرأة تنضح بالرغبة في فك إسار الأمية.
بين جلسات العلاج بالكيمائي وجلسات التعلم تنفق هذه السيدة، الأرملة منذ ثلاثة أعوام، أيامها. “هي نموذج للمرأة الناجحة، وعنوان للتحدي”، تؤكد شيرين وهي تغالب دموعها.
ومثل سليمة، سيدات كثيرات يكافحن في الظل من أجل تغيير واقعهن المعيشي ويحققن كل يوم إنجازات عظيمة لا تحفل بها الكاميرات ولا تأبه لها الأقلام.