الأحزاب الوطنية ومعركة الديموقراطية ذ: محمد بادرة.

0 291


شهد المغرب في العقود الاخيرة العديد من المعارك السياسية والاجتماعية والحقوقية لا زالت مفعولاتها تتغذى وتنمو في مجرى التيار الديموقراطي العام، والملاحظ ان تلك النضالات جاءت متزامنة او متأثرة بالمد الديموقراطي الذي اكتسح كل قارات العالم ضد الاستعمار الجديد والامبريالية العالمية والديكتاتوريات المستبدة.
الديموقراطية واسلوبها في الحكم التي تعني مشاركة المواطنين في الحياة السياسة كناخبين او عناصر نشطة سياسيا او كمنظمات مجتمعية او نقابات مهنية او احزاب سياسية لتنظيم مشاركة فاعلة للأفراد في الحياة السياسية سواء على مستوى رسم السياسة العامة، او صنع القرار واتخاده وتنفيذه كان ولا يزال هو الاسلوب السياسي الذي تدعو اليه وتتبناه كل الفصائل السياسية الوطنية التقدمية والليبيرالية والمحافظة في المغرب بالرغم من اختلاف ايديولوجياتها وعقائدها وبرامجها، وهذا ما وفر ” للتجربة الديموقراطية” المغربية وجود تعددية حزبية والواقع ان وجود هذا التعدد الحزبي لا يعني افساح المجال لكل الاطراف في المجتمع للتعبير عن نفسها، كما ان اختزال الديموقراطية في مفهوم التعدد فقط لا يعدو ان يكون خلق مناخ للتنفيس وتغطية العجز في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية مما يحول الديموقراطية الى شعار زائف يفقد اي مصداقية في عين الشعب الذي يبتعد عن الانخراط في العمل السياسي وفي النضال الديموقراطي باعتبارها لعبة بين اطراف ذات مصالح مشتركة.
اوضح روبرت داهل DAHL في كتابه (مقدمة لنظرية الديموقراطية)و سارتوري SARTORI في كتابه(نظرية الديموقراطية) ان النظام الديموقراطي في الواقع هو نظام نيابي وحكم باغلبيات انتخابية، وان الشعب في هذه الانظمة الديموقراطية النيابية يفوض الاحزاب السياسية التي ينتخبها بمهمة ترجمة ” قراراتها وبرامجها ” الى الواقع، غير ان هذه الاحزاب المتحالفة او المتعارضة غالبا ما لا تقوم بواجبها حينما تشكل الحكومة اذ انها تفوض بعضا من مهامها واعمالها لموظفين وتقنيين وخبراء و غيرهم من الاشخاص الذين لا يمس الانتخاب نشاطهم، وبذلك تجد السلطة تمارس من طرف موظفين اداريين وتقنيين وخبراء، ومستشارين او مؤسسات وقوى مالية ووسائل الاعلام.. علما ان المسؤولين عن هذه المؤسسات والهيئات يحوزون سلطة فعلية في هذا التأثير وفي القرار بدون ان يكونوا هم من المنتخبين الحزبيين وبذلك يتقلص دور الاحزاب والحكومات الحزبية وبالتالي تتقلص الممارسة السياسية والممارسة السيادية للنظام الديموقراطي.
ازمة الديموقراطية داخل الاحزاب او الديموقراطية المحجوزة داخليا
اذا كان وجود الديموقراطية رهينا بالأحزاب السياسية، فان الوظيفة الحزبية المركزية المتمثلة في ممارسة السلطة السياسية او السعي الى ممارستها لا تتحقق الا في ظل الديموقراطية والتي بدونها تستحيل الممارسة الحزبية. كما ان الديموقراطية ليست فقط مجرد مؤسسات سياسية او انتخابات او تعددية حزبية بل هي ايضا تحولات عميقة في بنية المجتمع وفي الثقافة السياسية السائدة. انها عملية بناء وتأسيس تبدا من الانسان اولا او لنقل يتساوق بناء المؤسسات الديموقراطية مع بناء المواطن الديموقراطي، ان وجود مسؤولين مدبرين للشأن السياسي العام غير مؤهلين سياسيا وحزبيا وغير مشبعين بثقافة حقوق الانسان في مواقع المسؤولية يشكل عائقا في وجه اعادة بناء الدولة والمجتمع ونموهما وعائقا للتغيير والتحديث والبناء الديموقراطي.
والديموقراطية تستوجب استحضار حقيقتين:
-الحقيقة الاولى انه لا وجود للديموقراطية بدون وجود مجتمع مسيس ومؤسس على المواطنة الكاملة بتأطير من منظمات وجمعيات واحزاب سياسية ديموقراطية تعمل على تقوية مؤسسات المجتمع والجماعات الوسيطة المستقلة التي تعمل على توفير الظروف الملائمة لتقليص هيمنة الدولة على المجتمع ومن تم المساعدة على التطور الديموقراطي.
-الحقيقة الثانية ان الديموقراطية لا يمكن ان تنجح بدون توافر عدد من الشروط الاساسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لان الديموقراطية ليست تصورا جزئيا بل هي تصور شمولي يكمن اساسه في العدالة الاجتماعية، وبدون ديموقراطية اجتماعية ليست هناك ديموقراطية سياسية، فالقيود التي اعترت تطور مؤسسات المجتمع والمؤسسات الحزبية والجماهيرية اسهمت بدور هائل الى جانب العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في التأثير سلبا في عملية المشاركة السياسية مما يجعل بناء واستمرار الديموقراطية اكثر صعوبة. اذن بدون ديموقراطية اجتماعية لا يمكن لأي ديموقراطية ان تكون سوى طلاء باهت لإخفاء الظلم الاجتماعي والفساد السياسي.
فهل احزابنا السياسية انخرطت لأجل ترسيخ قيم الديموقراطية الاجتماعية في اعطاء الحقوق لكل مواطن عن طريق ضمان المساواة في الاوضاع، وهل احزابنا ساهمت بنضالها “الديموقراطي” في اقامة ديموقراطية سياسية لتكريس مجتمع المساواة في الحقوق والواجبات؟
من الاشكالات العميقة التي تعاني منها الاحزاب المغربية، مشكل الديموقراطية الداخلية ومن المسلمات النظرية ان الحزب اذا لم يكن سباقا من خلال فعله على اعطاء النموذج في الفعل الديموقراطي من خلال تنظيماته وهياكله والصيغ التي ينتهجها في اقتسام المهام والمسؤوليات بداخله وكذا الاليات المتبعة في انتاج نخبه وتربية منتسبيه على الالتزام باللعبة الديموقراطية فسيكون من الصعب عليه ادعاء تبني النضال في سبيل تجويد اداء مؤسسات الدولة والرقي بالسياسات العامة في سبيل تحقيق مطالب المواطنين.(قاشي م. الكبير):
الممارسة الديموقراطية داخل احزابنا السياسية بتلويناتها الايديولوجية المختلفة تعد البعد الغائب في الممارسة الحزبية على الرغم من ان هذه الاحزاب تعطي الانطباع على تفعيل القوانين الداخلية وفق الضوابط التنظيمية المتبعة في عقد جموعها واجتماعاتها الدورية، وهو ما يسمى في عرف الاحزاب بالديموقراطية الداخلية. لكن جل احزابنا السياسية لا تحترم حتى مواعيد عقد مؤتمراتها الوطنية والجهوية والمحلية كما ينص على ذلك قوانينها الداخلية التي وضعت وفق مسطرة التصويت “الديموقراطي” الداخلي؟؟؟
المؤتمرات الحزبية لم تعد لها اية قيمة سياسية تذكر في تاريخ هذه الأحزاب ولا تعقد الا بعد التأكد من “بيعة” الزعيم وتعيين فريقه السياسي والتنظيمي، وفي جو تسوده مفاوضات الكواليس والمساومات السرية والصفقات التي لا يمكن الاعلان عنها، لذا لم تعد هذه المؤتمرات كما كانت من قبل محطات اساسية لتقييم الاداء السياسي للأحزاب، وتدقيق الخط النضالي والايديولوجي للحزب، بل تحولت بعض هذه المؤتمرات الحزبية الى “سيرك” الهدف منه تمويه صراعات النفود ومفاوضات الكواليس في غياب ممارسة ديموقراطية داخلية حقيقية.
الديموقراطية الحزبية وصلت الى درجات من الانحطاط السلوكي والتنظيمي قادت الى ضمور متنام للأحزاب، ومن المؤشرات الكيفية على ازمة الديموقراطية وازمة الاحزاب، شيوع ظاهرة السلبية السياسية واللامبالاة بالعمل السياسي، والذي يكشف عن ظاهرة اعمق في المجتمع هي ظاهرة الاغتراب. ان الاغتراب السياسي والخمول السياسي مرده الى انحطاط الممارسات السياسية والممارسات الديموقراطية، واحساس الافراد والجماعات داخل الاحزاب بتلاشي الاهداف الحزبية الكبرى امام المصالح الشخصية للنخب الحزبية في تولي المناصب والانتفاع الشخصي منها.
في ظل غياب الحركية التنظيمية، والحركية الديموقراطية تتحول الممارسة الحزبية الى وسيلة بيد القادة او النخب الحزبية فينتزعون بواسطتها اقرار القواعد الحزبية بشرعية سلطة الزعيم دون ان يكون لهذه القواعد الحزبية اي دور حقيقي في صياغة القرارات.
ويترتب في ظل هذه الوضعية ان الحزب يصبح مطبوعا بسمتين اساسيتين:
الاولى ان يصبح الحزب تنظيما مغلقا او بالأحرى ناديا مغلقا، لا يستدعى اليه الا “زبناء” الزعيم، ويغلق في وجه القواعد الحزبية المكونة للتوجهات المختلفة لراي الزعيم، ويفرض على الجميع قبول هذا الفضاء التقديسي للزعيم. وهذا ما وسم التجربة الحزبية المغربية التي لم تنتج البتة اي تحول في الزعامة او القيادة الحزبية خارج الانشقاق الفوقي باعتبار المؤتمرات محطات تزكية وشرعية الكائن لا البحث في احتمالات الممكن.
والثانية ان يصبح الحزب كيانا مقدسا لا يسمح بالمجادلة والحوار بناء على قانون ضمني يتمثل في ان المقدس من طبيعته انه لا يقبل النقاش والجدال بل انه صالح للإيمان فقط. وهو ما يتضح من خلود الزعماء الحزبين في مناصبهم بحيث تكون الوفاة هي الامكانية الوحيدة التي تجعل الزعيم السياسي يفقد مركزه.
فشرعية الحزب ووجوده مرتبطة بالزعيم عوض ان يكون الحزب هو مانح الشرعية فهذا الاخير يسعى الى خلق نوع من التماهي بينه وبين الحزب فهو الحزب والحزب باق ما بقي هو.
ونجزم القول ان تاريخ الحزب هو تاريخ زعيمه الذي يمنح لنفسه صلاحيات واسعة تنتهي في اخر المطاف بتهميش باقي الهيئات وتحول بالتالي دون تشكيل (قيادات الظل) تكون مؤهلة لخلافة الزعيم اي تجفيف منابع الاستمرارية التنظيمية. (قاشي م. الكبير – نحو تطوير الاحزاب السياسية بالمغرب – رسالة جامعية)
وجود واستمرار الاحزاب السياسية رهين بالمطلب الديموقراطي
منذ نشوء اول نواة للتنظيمات الحزبية في المغرب كانت مسالة الديموقراطية على راس قائمة الموضوعات الاكثر حضورا في النقاشات السياسية والحزبية الوطنية، بل فرضت كل ثقلها على نشوء الحركة الوطنية وكانت سببا في نشوب نزاع سياسي داخل كتلة العمل الوطني، تزعم فصيلها الاول محمد بلحسن الوزاني وفصيلها الثاني علال الفاسي على ان علاقة كل تيار او فصيل بالديموقراطية لم تكن معزولة عن المحيط الذي نشأت فيه الحركة الوطنية ولا عن اهدافها الظاهرة والخفية، ولذا فالموقف من المسالة الديموقراطية منذ انفصال هاتين الهياتين الى الاستقلال والى اليوم يصلح ان يكون معيارا لقياس حضور التصور الوطني للديموقراطية او غيابها ( عفوا محنتها)، بمعنى ان الممارسات الحزبية والانشطة السياسية التي رسختها هذه الفصائل الحزبية الوطنية قبل وبعد الاستقلال تحولت الى انماط وقواعد سياسية و اشكال وهياكل تنظيمية اثرت سلبا وايجابا على مسار وحياة مختلف الهيئات الحزبية الاخرى التي ولدت من رحمها او تم خلقها بإرادة ادارية منذ نهاية السبعينيات الى اليوم.
فمسلسل الانشقاقات يستمد شروطه الموضوعية من عدم قدرة مختلف هذه الفصائل الحزبية من تدبير التناقضات الداخلية التي تعكس غياب ادنى شروط العمل الديموقراطي على المستوى الداخلي للأحزاب وغياب الحوار وممارسة سياسة الاقصاء بدل احتواء الاختلافات الداخلية بطريقة تسمح بممارسة حق الاختلاف او المعارضة. هذا الاستمرار في الانشقاق والتشرذم يضع مسالة التصور الوطني للديموقراطية عملية مؤجلة الى حين تجاوز تبعات واخطاء مرحلة ما بعد الاستقلال بما فيها الصراعات التي عرفتها نهاية الخمسينات وبداية الستينات …وبدون تجاوز هذا الارث واحداث قطيعة معها فسيستمر احتراق البيت الحزبي في غياب المسالة الديموقراطية او بالأحرى عملية التحول الديموقراطي.
ان تأسيس حزب ديموقراطي لا يمكن ان يتم الا بواسطة لبنات ثقافة ديموقراطية، اي ثقافة بناء مؤسسات حزبية عصرية قادرة على تحويل الديموقراطية الداخلية من خطاب وشعار الى ممارسة عملية وفعلية باعتبار الديموقراطية نظام للتباري ومؤسس على تساوي الفرص وعلى شفافية اليات الحسم. وبقدر ما يضمن الحزب الديموقراطي حقوق كل الفئات في التعبير وبلورة توجهاتها يضمن مسار بناء المجتمع الديموقراطي المنشود الذي يمكن كل مواطن من التعبير عن وجهة نظره بكل حرية وبكل موضوعية وبدون هذا التعبير الحر لن نتمكن من ارساء ثقافة حقوق الانسان وتأصيلها في المجتمع بمفهوم مجتمع المواطنين.
ان تأصيل الديموقراطية داخل الاحزاب يهم المواطن المسيس والمواطن اللامنتمي، ويهم اساسا شبابنا الذي يتطلع للديموقراطية والنماء والتقدم، ومن حق الاحزاب عليه ان تشاركه في اللحظات المصيرية فيما تصنعه من قرارات سياسية تمس مستقبله.
ان الرهان على الديموقراطية يستلزم مزيدا من مواجهة الاوضاع الحزبية والمجتمعية المتردية كي لا تبقى الديموقراطية مجرد شعار للاستهلاك الاعلامي الذي لا يهدف الا الى افراغها من محتواها وجعلها واجهة للتبجح لا لتدبير الاختلاف. ان خطاب الشعارات لم يعد له اي مبرر. فالديموقراطية في اجلى تجلياتها هي الحق في الاختلاف لا في الاجماع ( الا في القضايا الوطنية العليا). الديموقراطية تعني حق التناوب على المسؤولية والقيادة الحزبية وعلى السلطة والحكم من خلال الاحتكام الى صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة وحرة. فهل ترقى احزابنا الوطنية الى استخلاص تجاربها البعيدة والقريبة في هذا الباب؟
ان المغرب في حاجة الى ديموقراطية فعلية تبدا من الاحزاب الى باقي مؤسسات المجتمع والدولة، وفي البدء يستلزم فتح اوراش التفكير داخل احزابنا الوطنية حتى تستطيع الانفتاح على التيارات والاتجاهات المعارضة والمختلفة باعتماد اليات الديموقراطية الداخلية او عبر ممارسة ثورة داخلية على استبداد الراي الواحد وصولا الى اقامة نظام الحزب – المؤسسة وليس الحزب – الزاوية الطائفة والقبيلة وهو الامر الذي من رحمه سيتولد الانتقال من حزب الزعيم الى مرحلة المؤسسات وهذا الانتقال من ثقافة الزعيم الى ثقافة المؤسسة سيمكننا من كسر مركزية سمو وقدسية الزعيم الوحيد الاوحد والقطع مع حرب الواقع الى حرب الافكار والتصورات.
ان المغرب في حاجة الى احزاب ديموقراطية حاضنة للتيارات والتوجهات المختلفة تحتكم للمركزية الديموقراطية، لا على الولاء والخدمة والخضوع لراي الزعيم، ولا على الاستبداد بالراي وممارسة سياسة الاحتواء. احزاب تصرف مواقفها وافعالها عبر النقاش والصراع السياسي بين الآراء في سياق ممارسة النقد والنقد الذاتي، تحترم راي الاقلية وقرار الاغلبية وتمارس بين نخبها ومناضليها اليات الديموقراطية الداخلية الحقيقية.

   ذ. محمد بادرة
قد يعجبك ايضا

اترك رد