القصة السابعة عشرة: ” الواقف ” للقاص محمد أملو
أعشقُ القصةَ القصيرةَ بشكلٍ كبير. أقرأها كثيرا كثيرا وأحاولُ أن أكتبَها قدرَ استطاعتي، طامِحا باستمرارٍ إلى إنجازِ نصوصٍ قصصية جيدة.
أعتبرُ القراءةَ جزءًا لا يتجزأُ من عمليةِ الكتابة ذاتِها، والقاص في حاجةٍ دائمةٍ إلى الاطلاع على نصوصٍ جَيدة، تمتُعه وتشبعُ شغفَه من جهة، وتُقوي ــــ من جهةٍ أخرى ـــــ حافزَه لكتابةٍ نصوصٍ قصصية تضارعُ أو تتجاوزُ النصوصَ الجيدةَ التي قد يعثرُ عليها من حينٍ لآخرَ في مقرُوءِه.
القصصُ القصيرة الجيدةُ ــــــ مثلما هو معروفٌ ــــ لا توجدُ في كلِّ مكان، كما أن العثورَ على قصصٍ جديرةٍ بالثناء، ليسَ بالضرورةِ نادرا جدا؛ إذ بوسعِ القارئِ الشغوفِ المتتبعِ أن يجدَ منها ما يشبعُ شغفَه ويثيرُ إعجابَه.
ولقد فكرتُ أن أشاركَكم بعضَ النصوصِ القصصية التي قرأتُها فأعجبَتني وبقيَت عالقةً بذاكرتي، أختارُها هكذا عفوَ الخاطر، ودون ترتيبٍ مقصود. لكن قبلَ ذلكَ أودُّ الإشارة إلى جُملةِ أمور:
ـــــــ فأمّا أولُها: أن اختيار هذه النصوص يبقى محكوما في النهاية بذوقٍ شَخصي، وتصورٍ شخصي أيضا للقصة القصيرة.
ــــــ الأمرُ الثاني: أصرفُ النظرَ هنا عن كُتاب القصة القصيرة الكبار، لن أتحدث ـــــ مثلا ـــــ عن نماذجَ لأبي يوسف طه، محمد زفزاف، يوسف إدريس، أحمد بوزفور أو محمد المنسي قنديل… بل أصرفُ اهتمامي إلى كُتابٍ أقرب إلى جيلي، أكبرَ أو أصغرَ مني قليلا في السن، مركزا أكثرَ على القصاصين المغاربة.
ــــــ الأمرُ الثالث: تكمنُ خلفَ هذه الفكرة رغبةٌ صادقةٌ ومنزهةٌ عن أي غايةٍ أخرى، في الاحتفاء بهؤلاء الكتاب، وهي طريقتي في أن أقول لهم: شكراً لأنكم أنجزتُم تلك القصصَ وأمتعتُموني أشدَّ الإمتاع..
ــــــ الأمرُ الرابع: إن اطِّلاعي يبقى قاصرا، مهما بلغَ شغفي بالقصة القصيرة وحرصي على قراءتها. ولا شكَّ ــــ والحالُ هذه ـــــ أنه قد فاتَتني قراءةُ نصوصٍ كثيرة جيدة، لم يتسنَّ لي الاطلاع عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد أملو:
أعرفُ الكاتب محمد أملو عن قرب. هو قاص مُقل. رحلته مع القصة القصيرة ــ قراءةً وكتابةً ــ ربت على الرُّبع قرن. لم ينشر خلال هذه المدة سوى قصص قليلة، وفي فترات متباعدة.. ربما عدَّ نفسه مزاجيا أو كسولا لا يكتب بالانضباط الذي يتمناه، لكنه علاوة على ذلك، قاص مُتطلِّب يفضلُ الكتابة بتأن، وغالبا ما يشتغل على النص الواحد شهورا عديدة؛ لذلك فهو لا يعيشُ نشوةَ إنجاز نص قصصي جديد إلا بعد مكابدةِ الكثير من عزلةِ وألمِ الكتابة.
لكن وجبَ الاعترافُ أن نصوصه القصصية على قلتها تؤشر على تجربة جديرة بالانتباه؛ نصوص في غالبيتها ذات نفس قصصي طويل ــ مقارنةً مع ما هو متداول ومنشورٌ من قصص في شتى المنابرــ وتؤشر على اشتغال حقيقي على صعيد بناء النص القصي ككل: الشخصيات ، اللغة، الأفكار، الحبكة.. الخ. وعندما ينجزُ نصا جديدا فكأني به يُضمَّنه أو يضمرُ فيه الكثيرَ من النصوص الأخرى التي لم يكتبها.. أو كأنَّ النص الواحد بالنسبة إلى محمد أملو، بمثابة كبسولة تختزنُ من الطاقة والجهد ما قد يوزعُه الكاتبُ ــ لو أراد ــ على أكثرَ من نص.
النص القصصي عند محمد أملو عالمٌ متكاملٌ.. تجربة نفسية غنية ومعقدة يعيشها الكاتب طيلة مراحل تشكُّل النص وكتابته.. خاصة وأنه يختار مواضيع وأسئلة صعبة ليُجابهها قصصيا: الموت، الجنون، الزمن..
وعلى العكس مما قد يوحي به، للوهلة الأولى، طُولُ قصصه، فإن محمد أملو كاتب مغرم بالحذف، ويَعُدُّه مرحلة بالغة الأهمية من مراحل الكتابة. كلمة واحدة في موضعها تغنيه عن سلسلة من المرادفات، بل عن جُمل كاملة.
بالإمكان رصدُ جُملةِ خصائصَ تسمُ الكتابة القصصية لدى محمد أملو، منها ــ على سبيل التمثيل ــ أنَّ جمال اللغة في نصوصه، لا يكمن في الكلمة أو العبارة ذات الإيقاع أو الجرس أو تلك المحفوفة بظلال المجاز، بل هو جمالُ الدقة؛ جمالُ الكلمة الضرورية والكلمة التي تأتي في موضعها بالضبط.
أدعوكم للإنصات إلى تجربة القاص محمد أملو من خلال هذا النص الذي أقترحه عليكم، وهو بعنوان " الواقف".. وأراهنُ أنكم ستقفون على تجربة قصصية لا تعوزها مقومات التميز؛ تجربة قد تضمُّها دفتا كتاب قريبا؛ إذ نمى إلى علمي أن مجموعة محمد أملو القصصية الأولى قيدَ الإعداد للنشر، ومن المأمول صدورُها في الأشهر القادمة؛ ولعلَّ ظروف وإكراهات النشر التي نعرفها جميعا، لا تعيقُ خروجَ هذا الكتاب القصصي إلى الوجود ، أو تؤخره أكثرَ مما ينبغي.
"الواقف" نصٌّ قصصي قوي مكتفٍ بذاته، في غنى عن أي تقريظ أو ثناء من جانبي.
قراءة ممتعة..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواقف
قصة: محمد أملو
منذ زمن مستحيل على التذكر، وهو واقف في باب الدرب...
كان شديد التعلق بالوجوه، وكان يحب قدرته على تمييز الأشكال والألوان والدرجات، كان فخورا لأنه تمرس على الدقة والتحديد. رأى وجها هذا الصباح وقال لنفسه: ما يخيم على هذا الوجه ليس حزنا.. في عينيه إحساس بالنهاية، فيهما خطورة إنسان يائس. شحوب يعم الوجه؛ شحوب الأرق والإهمال والمرض. اللباس يشي بأناقة قديمة؛ قبل سنوات كان القميص أنيقا والمشية معتدلة وإحساس بالتميز يرافق الجسد كعطر دائم. يتخيله الواقف وهو يتخبط في تفاصيل مؤلمة؛ يحس بحاجته لسيجارة وقهوة وثمن تنقل بالحافلة، يستشعر وخز تأنيب الأب وتخلي الأصدقاء.. تداعت الأحلام ببطء وتقادمت كل الألبسة. يراه الواقف يغادر منزل الأسرة بعد مشاجرة عنيفة، يراه في الشارع، يستعيد مشهد مروره من أمامه. كانت النظرة منحرفة فيها لمعة جنون، وعندما فكر الواقف مليا اقتنع بأن ما رآه ليس جنونا، بل أعراض انقلاب في الشخصية. كان شابا حالما وهو الآن يشحن نفسه بالقسوة، يتوحش.. توقع الواقف أن يرحل إلى مكان آخر ويبدأ حياة عنيفة. لن يكون لصا صغيرا، سيتاجر أو يتوسط في أي شيء يذر مالا وفيرا.. فيه عطش للقوة. يتخيله الواقف بعد سنوات يخوض في السياسة ويدير شبكة تهريب وأموال قذرة. ينتقل الواقف إلى وجه منقب. المرأة مكتنزة داخل الجلباب الواسع وخطواتها وئيدة. ينظر إليها ويتوقع عرقا خلف النقاب. يقترب من عينيها: هادئتان، ترمشان ببطء كعيني ناقة ولا تحيدان عن نقطة في الأمام. كل البطء الذي يلف المرأة وكل العزم الهادئ في عينيها يلهمان الواقف بصورة أولية: امرأة قوية متمرسة على حروب أهل الزوج. يراها الواقف تحرك كتلتها بصعوبة داخل منزل كثير الأفراد، وتواجه شراسة أخوات الزوج بكلمات قليلة سامة، تعلمت مع السنوات أن تكون هادئة وعندما تحتقن بالغضب والحقد تلجأ إلى السحر الأسود. افترض الواقف أنها امرأة بلا أولاد، شيء ما في كتلتها الهادئة يوحي بأنها امرأة وحيدة لم تعتمد يوما على الأولاد لحماية نفسها. لم ير سوى عينيها. جرب أن ينزع النقاب عنها؛ وجه أبيض بشعيرات على الذقن وشامة على الخد. كان وجها شهوانيا في شبابه وكثير الضحك، وهو مازال حتى الآن يعرف كيف يتبرج أمام الزوج ويحرك رغبته بين الحين والآخر.. يرفع الواقف نظره إلى السماء ويرى تشكيلات من السحب وبعض الطيور. يتنبه إلى وجه آخر؛ وجه امرأة. يرى إيماءة غضب على سطحه الشاحب. لماذا هو قاس ومهمل؟ يتخيل أن الخطأ ابتدأ منذ الولادة. في ذاكرة الوجه صورة قديمة لأم مجنونة ولا أثر للأب. تقاذفته الظروف حتى وصل إلى زواج بئيس وأولاد وطلاق، ثم حياة الشوارع والعنف اليومي واحتقار الذات. وجه صدئ تعوّد على الشرب مع الذكور في الزوايا المظلمة والتعرض للضرب والاغتصاب وإسقاط الأجنة. أين هم الأولاد؟ سؤال يثير بكاء عاصفا بين الحين والآخر، بكاء لا يجد المواساة أبدا ويهدأ من تلقاء نفسه. يجبر الواقف نفسه على الاهتمام بوجه آخر: عادي، لماذا هو عادي؟ لأنه يشبه وجوها كثيرة. من قال إن الوجوه تتشابه؟ يعود إليه؛ شكل أسمر لم يحلق منذ أيام. يراه تحت الشمس في أحد الأسواق: يمزح، يتمنع، يداعب النساء بالكلام، يتحرك بسرعة في مساحة ضيقة. يراه في الليل وسط الزوجة والأولاد، يخاطبهم بصوت عال ويمازحهم، يأكل ويصلي ثم يسبق زوجته إلى الغرفة في الأعلى.. موفور الصحة ويحب أن يضاجع كثيرا. ينفذ الواقف إلى ذاكرته، يتوغل عميقا ويستقر أمام شمس ساطعة.. شمس الصيف، القطيع الصغير أمام العين والمدى الأصفر يحده صف من الأعمدة. يقال إنها تنقل الضوء من السد إلى المدينة. كيف هي المدينة؟ مجرد حكايات: أزقة وأسواق وحشود من الناس ولصوص. هل يمكن الذهاب إليها مشيا؟ بعد السوق ستكون هناك مساحات ممتدة ودواوير وليل ونوم في العراء وقطاع طرق. ولكن، كيف يمكن للأعمدة أن تنقل الضوء؟ ينظر إلى الشمس وتتداخل في ذهنه أشكال الضوء: نور الصباح، عين الشمس، وهج الشمعة. ولكن ما تنقله الأعمدة لا يمكن أن يكون ضوءا، ماذا يكون إذن؟ يتبسم الواقف ويصر على أن سؤال الضوء ما زال يتردد حتى الآن في هذا الوجه. يسميه دون أن يفكر كثيرا: وجه "الشرّادي". من يكون "الشرّادي"؟ مجرد اسم سمعه مرة في الزقاق.
خرج الواقف من الوجه ووجد أن الدنيا قد أظلمت.
في ليال كثيرة فكر في وجوه السكارى وأطلق أسماء عليها، ولكن الظلمة والوحدة تحفزانه بالخصوص على التفكير في نفسه. عندما يجهده التذكر يقف دائما عند حدود مشهد قديم للزقاق تعبره وجوه بلا ملامح. كل ما يذكره الآن هو أنها كانت تثير فيه انجذابا قويا. دون أن يعي تماما، كان يحاول أن يحرق المسافة بينه وبينها وأن يقربها إليه حتى يتطابق معها، ولكن الوجوه كانت تتباعد دوما دون أن يفهمها. كان يدرك حجم جهله ويحاول من جديد؛ يحصي ما تعلمه، يتذكر وجوها مرت ويعيد التفكير فيها، وعندما يكتشف شيئا جديدا، يحاول أن يستعيد الطريق التي قادته إلى الاكتشاف كي يجربها في مرات قادمة. كان يسعى لامتلاك القدرة على اقتحام الوجوه بنظرة واحدة، ويحلم بالتجول بحرية في ذاكرتها، وخصوصا في الجانب المظلم حيث الأسرار المخجلة ورأي الذات الحقيقي في نفسها. سيرى مقاطع من طفولة الشخص: أماكنها، أحلامها، لعبها. سيعرف أن خطوط القسوة أو الخوف أو التسامح… موجودة في النظرة الصغيرة ولكنها خطوط لينة لم تتصلب بعد.. يستطيع أن يحيي لحظات من الماضي ويحضر فيها كشاهد غير مرئي: يوم تعارك الشخص وانتصر، انهزم، انسحب خائفا. الليالي الكثيرة التي تمنت فيها المرأة أن يتجرأ الرجل المجاور ويدق بابها. عندما نظر إلى زوجته النائمة وتمنى لها الموت. حين كان يحيك في ظلام أفكاره مؤامرة لإفشال صديقه. كيف كان يصدق نفسه وهو يكذب. لما نفقت الناقة جوعا أمام عينيه. اللحظة التي تصور فيها أن الثورة قد تحققت في الوطن…
ستكفيه نظرة واحدة ليعرف السيرة الكاملة للشخص.
لحية بيضاء مثلا ونظرة مشبعة بالرضا، قد تقذف به في حكاية رجل يجلس وسط مال التجارة المتراكم ويتقنع بورع مزيف. يمكن للواقف أن يتراجع إلى الوراء فيحذف اللحية وبعض التجاعيد وتورد الشبع في الخدين وعادة النظر باقتضاب إلى المستخدمين، فيعود الشخص إلى الشباب والفقر. يمكن أن يحضر زواجه، أن يرافقه في حَجته الأولى، يمكن أن يكون في عينيه وهو يتأمل امرأة جميلة…
تعلم الواقف أشياء كثيرة. أصبح قادرا على ملاحظة أبسط درجات التمدد والانقباض في الملامح، ومعنى حركة العيون وتوقيت ردود الأفعال، وأدرك تقريبا كيف تضيع من الناس طبيعتهم الحقيقية في لحظات الحرج. تعلم كيف يهيئ نفسه للتعامل مع الأشخاص الأكثر ذكاء، وأن يتحسب لبعض الاستثناءات. استطاع أن ينفُذ إلى أكثر الوجوه جمودا ويُسقط كثيرا من الأقنعة.. ما زال يذكر قناع الممرض: لحية مشذبة مع شعر كثيف وهالة من الرجولة الواثقة. رآه يحادث الأطفال ويسرع إلى كرتهم ليلعب بها وسط ضحكاتهم. رآه يمزح مع أصحاب الدكاكين ويمنح الصدقات. كان ممرضا أنيقا بصوت قوي وحضور يفوح بالعطر. ولكن الواقف بدأ يلاحظ أشياء محيرة؛ لاحظ كيف يُظلِم الوجه أحيانا ويستغرق في شرود متجهم كأنما يعود إلى طبيعة متأصلة. لاحظ أيضا كيف يتصنع هيآت مغرية أمام النساء. صعب أن أشرح المسألة؛ قال الواقف لنفسه، يضاعف الوجه من فحولته أمام امرأة جميلة، تصير نظرته أبعد، أكثر تركيزا على موضوع غائب، ثم تنحرف فجأة وتبحث عن مدى التأثير الذي خلّفه في المرأة، وإن وجد ما يشجع، يحاول بصمت ربط علاقة سرية. ثم يتخيل الواقف طقوس ارتداء القناع كل صباح أمام المرآة: يمشط الرجل شعره ويتحسسه بأطراف الأصابع، يعطر اللحية ويتراجع إلى الوراء ليرى كامل قامته، يشم نفسه، ثم يبتسم ويخرج. تخيله الواقف يُدخل إلى منزله فتيات من الحي ونساء متزوجات، ولكن ما لم يستطع تخيله هو ما دوى به الزقاق في أحد الأيام: أب غاضب يريد أن يذبح الممرض لأنه اغتصب طفله. كان الممرض محتجزا في منزله والجميع يحاول تهدئة الأب..
وجوه كثيرة تمر. تتغير، تتقادم، يغيبها الموت أو الرحيل. وجوه تخرج من الطفولة وتكبر أمام نظره. صاحب الدكان المقابل أصابه العمى وغادر مكانه، لكنه يظهر أحيانا في الزقاق متمسكا بكتف طفلة شعثاء وحاملا قفة في اليد الأخرى. تأمل الواقف وجهه مرة واستنتج أنه وجه رجل ستقتله قريبا إهانات زوجته القاسية. تجمعات أولاد الحي تجددت، انضم إليها شباب جدد وغادرها آخرون. البنت الصغيرة التي كانت تحب اللعب بالكرة مع الذكور تحولت في سنوات قليلة إلى أنثى جميلة تلف جسدها في ألبسة جريئة. غطي الزقاق بالأسفلت وامتلأ بالحُفر مع مرور الوقت وظهرت وجوه جديدة. جاء وجه أشقر اعتقد الواقف في البداية أنه ضيف عابر. كان في أيامه الأولى متهيبا يخاف النظرات، ولكنه أصبح بعد فترة يشتري أغراضا من الدكاكين مثل أي قاطن، ويجامل الناس بابتسامات سريعة الظهور والاختفاء، ثم عرف الجميع أنه يسكن وحيدا بمنزل في قاع الدرب. أصبح الواقف يرى في وجهه ثقة متزايدة. “بُّول”: عرف الكثيرون الاسم وتعلم هو الآخر أن ينطق بعدة أسماء. هدم “بول” المنزل وأعاد بناءه: أشكال مقوسة، زخارف على الجبس والخشب ومسبح في الفناء، وأصبح يستقبل أفواجا من الغرباء. في هذه الفترة اكتسب وجهه شكلا آخر: حيوي، يقظ، كثير الانشغال وغير آبه بسكان الحي. كان يمر برفقة أصدقائه ويعين لهم الناس والأشياء كسيّد في المكان.
تابع الواقف “بول” زمنا طويلا ثم بدأ يفقد اهتمامه به. عاد إليه الهدوء واستغرق في وجوهه المألوفة، ولكن جاء آخرون. رآهم يستطلعون المكان غير عابئين بالشمس الحارقة، يمسحون العرق دون تأفف ويتحدثون إلى الوسطاء، يدخلون إلى البيوت ويشيعهم أصحابها بارتباك عند الخروج. يعرفون اتجاهاتهم ويقتحمون العتبات بثقة. يسجلون أشياء في مفكراتهم وهم يستمعون للوسطاء المتملقين. ظهر “بول” برفقتهم عدة مرات، رآهم الواقف متحلقين حوله ينصتون بجدية بالغة، وكان بعضهم يحمل مفكرة وقلما ويكتب كتلميذ. ركز الواقف مرة على أحد الوجوه، رأى شيبا في حاجبيه وتجاعيد لوّحتها الشمس. رأى عينيه تتنقلان بين الوجه المقابل والوسيط وتحاولان أن تستطلعا ما يقال، تتجمد فيهما ابتسامة وتنتظران كلمة من الوجه المقابل، هي كلمة موافَقة على الأرجح. الشفتان تنفرجان في انتظار فرصة للحديث، ثم تنطلقان بعد ذلك في كلام سريع يتخلله الضحك. فور انتهاء الكلام يصبح الوجه أكثر ثقة، يحك شعره الشائب ويتكلم في الهاتف، يضحك ويغمز للوسيط وكأنه يُشهده على دعابة محدثه، ثم يغادر في سيارته…
بيع متجر الفحم وقام مكان سوره الترابي جدار عال يتوسطه باب خشبي كبير. بيع “درب بن عمر” كاملا وأُغلق أمام المارة، بيع فندق “الباشا”، بيعت دكاكين كثيرة. توقف أصحاب الأمكنة عن الحركة وعسكروا أمام عتباتهم انتظارا للمشترين. بيعت مساحة السوق، ورياض “الصبيحي” والمساحة الخالية الموجودة خلف المسجد… ثم قامت منازل جديدة بهندسة تحاكي أشكال قديمة. سقط الجدار المقابل للواقف، الجدار الصديق، وحل محله جدار مستو عال أملس.. رأى الواقف العربات تمتلئ بالأمتعة ليلا وتغادر الزقاق محفوفة بوجوه يعرفها جيدا. يذكر تفاصيلها الدقيقة عندما كانت تمعن في الاقتراب: الشعر الشائب، البقع القاتمة في شفاه المدخنين، الآثار التي خلفتها البثور، أسرار القبح والجمال والتفاصيل التي تؤشر على الأعمار… كان يراها كما يمكن أن ترى نفسها في المرآة عن قرب. بدأت الآن هذه الوجوه تختفي تباعا وتحل محلها الوجوه الأخرى.
تغير المشهد كثيرا أيها الواقف؛ الأطفال الجدد لم يعودوا يملكون ما يكفي من التراب والجدران العتيقة لألعابهم. يمكن لنظرك الآن أن يتوقف عند أحواض الخضرة المرصوفة أمام الدور الجديدة، ويتتبع زخارف الأبواب الخشبية التي تشبه التجاعيد، ويتيه في اللبنات الحمراء التي تغطي الجدران العالية. امتلأ مكانك بوجوه غريبة متكتمة يصعب اختراقها، وجوه يخيم عليها هدوء رتيب مفتعل. أشخاص قليلون امتنعوا في البداية عن البيع، لكنهم يتساقطون الآن من حين لآخر، فترى في الليل مواكب رحيلهم التي تشبه الجنائز.
وحده العجوز “عبد السلام” قاوم حتى النهاية.
تعرِفه عندما كان بصحة جيدة، وتعرفه بعد المرض. تذكُر وجهه الحليق ونظرته المشمئزة وصمته الذي لا تقطعه سوى ردود مقتضبة على بعض التحايا. في وجهه تصلب لم تر مثله من قبل؛ تجاعيد كثيرة حول العينين، وأخرى دقيقة على جانبي الأنف تعطي انطباعا بأنه مستفَز دوما بروائح غير مرغوبة. عندما امتلأ الزقاق بالوجوه الوافدة ازداد العجوز تباعدا وعزلة، تعمقت تجاعيده وأدمن على مسح أنفه بأصبعين كلما مر بالقرب من أحد تلك الوجوه.. رأيتَه مرة ينهر أحد الوسطاء بقسوة، يلعن والديه ويندفع إليه يريد أن يأخذ بخناقه. باع آخرون في تلك الأيام واختفوا. تقلص عدد الوجوه الأليفة التي كانت تلقي إليه بالتحية، ثم مرض واختفى. وعندما عاد، كان وجهه مختلجا ومشيته مترنحة. يداه كانتا تبحثان عن الجدران باستمرار ورجلاه رخوتان. ثم رأيتَ سقطته؛ كان قريبا منك عندما تعثرت قدمه وتهاوى بلا مقاومة. تذكُر الآن أن الدم استغرق وقتا لكي يظهر، وأن عينيه الخاليتين من الألم كان فيهما تعبير طفل لا يفهم ما يجري. ثم حُمل إلى المستشفى ومات.
جاء بعد ذلك الابن الوحيد الذي يعيش بعيدا وباع المنزل. لم يكن الوسطاء يملكون فرصة لخداعه لأنه كان يتابع حركة الأسعار قبل وفاة والده بفترة طويلة. رأيتَه يحمّل سيارة الأجرة بحقائب والدته ويرحلان.
مات صديقك الأخير وأصبحتَ وحيدا. الوجوه الجديدة لا تعرفها، تعجز أمامها. حاولت أن تقلد نفسك عندما بدأت أول مرة وترى الوجوه بنفس النهم القديم. تستعد لتجربة جديدة وتقول لنفسك: يوجد في هذا الوجه ما يستحق الانتباه. ثم ترهف حواسك معتقدا أنك تلمست بداية الطريق. الوجه الذي اقترب من الشيخوخة يرسل شعره كشاب في العشرين ويضع في أصابعه خواتم كثيرة، تتوقع أنه احتفظ بتسريحته منذ الشباب، ولكن الترهل والشيب يضفيان عليه شكل مهرج هرم. ثم تبدأ لديك الأسئلة المحفزة: ما شكل حياته السابقة؟ ما هي الصدف التي قادته إلى هذا المكان؟ أي وعود شحن نفسه بها؟ ما هي خططه؟ ثم تتوقف. تكتشف أنك ورطت نفسك في أسئلة صعبة. أنت لا تعرف ماضي هؤلاء، كيف يمكنك أن تحكي عنهم وأنت تجهل جذورهم؟ ولكنك تحاول أن تتجاوز هذه الصعوبة. لقد اكتسبتَ التجربة طوال حياتك وتعلمت كيف تملأ الفراغات. تلتقط الإشارات الأولى وتنطلق في المسارات المعتادة. تتوهم أنك تدخل البيوت مع الوجوه الجديدة وتشاهدها في أوقاتها الحميمة، ثم تنخرط شيئا فشيئا في التعقيد الذي تحبه. تحاول إقناع نفسك بأنك كائن استعاد عافيته، ولكنك لا تستطيع مع ذلك أن تتغافل عن إحساس مقلق يوجد في خلفية مشاعرك؛ هذه الوجوه مختلفة وصعبة وكل ما تتصوره حولها يبدو لك سطحيا.. تتجاوزك باستمرار وتشعرك بغبائك، فتبدو أمامها كائنا قديما تعوّد على إيقاع آخر. حاولت أن تتكتم على هذا الإحساس، أن تغطيه بالأوهام، ولكنه يتكشف أمامك يوما بعد آخر كحقيقة أكيدة. ثم أصبح يغمرك، ويحبط كل محاولة لاستعادة التوثب القديم.
تعود إلى نفسك في الليالي وتفكر.. لم تعد تملك ما يكفي من العناد والرغبة. تتأمل نفسك وتجدها خالية من شرارة الانفعال. هل شخت أيها الواقف؟ تتذكر لهفتك القديمة وتحسد نفسك. كنت تستقبل المَشاهد بفرح وتتوهج بكل اكتشاف جديد. أنت الآن كائن منطو، لا يحلم سوى بزاوية هادئة يقضي فيها بقية أيامه. تمر الوجوه من أمامك حيوية سريعة وتعجز عن اللحاق بها، تتركها تمضي دون أن تحرك ساكنا. ثم بدأت تنفصل عن الزقاق وتأتيك الأصداء من بعيد. أول ما لاحظتَه هو تباعد الأصوات، لم تفهم في البداية كيف يمكن أن تمر الأجسام على مقربة منك بينما أصواتها تتردد على مسافة بعيدة. ثم أدركت أن سمعك أصبح ثقيلا. تباعدت الأصوات بمرور الأيام، وصار أقصى ما يمكنك سماعه هو وشوشات خافتة. ثم سكتت الأصوات كلها وبقي طنين مستديم منخفض النبرة. كنتَ سعيدا تقريبا، بإمكانك الآن أن تتفرغ لسماع نفسك.. ثم ذات صباح لم ينفذ الضوء إليك كما يجب، وكان مشهد المنزل المقابل غائما. رأيت ظلا يخرج من بوابة فأدركت أن العجوز المرتجف هو من خرج في جولته الصباحية. فقد الزقاق ألوانه وأشكاله المحددة وأصبحت شبه أعمى. الأشياء تتحرك من حولك كزخارف باهتة وذكرياتك القديمة هي وحدها الحقيقية. تضاءلت رؤيتك بمرور الوقت حتى انطفأَتْ بالكامل، ولكنك كنت سعيدا. داخل عماك كنت ترى كل ما تود رؤيته؛ عادت جدران الزقاق إلى هيأتها الأولى وعاد الأطفال إلى لعبهم، استعاد الناس أمكنتهم وعادت الألوان. استقر بائع السجائر من جديد في مكانه وتحلق الشبان حوله بأصواتهم العالية ودعاباتهم، عاد الباعة والمتسولون.
فرح الواقف داخل عماه وصممه ولكن انطفاء مفاجئا حل به.. عشية أحد الأيام، بدأت ذاكرته تظلم.. تحركت فيها مشاهد أخيرة ثم تلاشت. ارتبك الواقف وبحث بيأس عن مشهد واحد، عن شيء ما يمكن أن يذكّره على الأقل بنفسه.. لا شيء. كان يشعر أحيانا بأنه يوشك على التقاط إشارة، على تتبع رائحة، ولكنه يتحطم متعبا.. بعد ذلك صارت كل لحظة تنمحي بمجرد أن تمر، يتعقبه النسيان ويحاصره على الدوام عند حدود لحظته الراهنة، ثم تخلى عن كل محاولة وماتت فيه الرغبة في معرفة نفسه. بقي الواقف يعيش في الظلام الكامل، يتعاقب عليه الليل والنهار وهو لا يدري بالضبط من يكون. يعرف فقط أنه كائن يتحلل ببطء في مكان ما. ثم بدأت فترات الغياب وفقدان الوعي؛ يغيب طويلا ويصحو فجأة، تتذبذب الحياة في داخله كشعلة واهنة.
في المرة الأخيرة، اشتعلت حواسه كلها فيما يشبه المعجزة، امتلأ نظره بصورة زقاق شديد الإضاءة تعبره وجوه سريعة بيضاء كالأشباح، ثم أظلم كل شيء.