“إنشراف” مسرحية من تأليف محمد بوزكو وإنتاج فرقة أمزيان للمسرح.

0 293

 كثيرا عل تيهيا مُتَمليا في لوحاتها التي لا يفقه فيها شيئا، يطالبها باستمرار برسم مزيد من اللوحات كي يبيعها لتلبية مطالب زوجته التي لا تنتهي، وأحيانا كان يعنّفها، غير أنه أعرب عن حبه لها، وما إقباله على زنزانتها إلا للالتقاء بها والحديث معها، وصارحها بأنه غير متزوج وفِعْل بيع لوحاتها لا أساس له من الصحة وإنما مجرد ذريعة لرؤيتها كل يوم. وتستمر تيهيا في طقوسها الفنية الخاصة هذه المرة ناحِتَة تمثالا من خشب، ناشدة بذلك صنع رجل وفق رؤيتها بمثابة بديل عن رجال العالم الخارجي، فما لا نستطيع تحصيله في الواقع بإمكان الفن تقديمه لنا، فبه نحيا وبه نستطيع تحقيق أمانينا التي لا تحصل في الواقع المادي. وإيمانا منها بقدرة الفن على مجابهة الواقع وتغييره أحيانا، استطاعت أن تتحاور مع فنها وتبث فيه الحركة والحياة، فالمسرحية تصور لنا كيف أن الرجل خرج من صنميته واستطاع النطق ومبادلة الكلام والمشاعر مع خالقته، وأمام اندهاش الحارس تجاه هذه الواقعة، لاسيما عندما كان شاهدا على الجِدال الحاصل بين التمثال وتيهيا. أخبرها ببراءتها وقرار سراحها الذي دافع عنه حتى ينفرد بها وينقذها من زنزانتها. الفتاة ترفض مغادرة أسوار السجن، فحريتها موجودة في الزنزانة، والخارج بمثابة غربة وسجن، وهكذا تتغير المقولات، وتصبح مجموعة من القيم نسبية، فلا حرية ولا عبودية ثابتة، كل شيء متغير حسب حالاتنا النفسية وطموحاتنا. وأمام النزاع الحاصل بين التمثال والحارس بخصوص الفتاة، ومن ثم ميلها نحو ما صنعته، عاد التمثال لحالته الأولى ولجموده باعتباره عملا فنيا فقط. ومن ثم تغطيه الفتاة بقماش من نفس طبيعة لباسها السجني. وبهذا تدفن مشاعرها وتحبسها معها، ليظل الواقع أكبر من الفن، ويظل صناعة رجل مثالي صعب المنال.

المسرحية التجأت إلى استثمار أسطورة بجامليون الإغريقية، وهو نحات صنع تمثالا أطلق عليه اسم (جالاتيا) ومن فرط إعجابه بتمثاله أحبه وتمنى أن تدب فيه الحياة وتحققت أمنيته حتى أصبح من لحم ودم، والأسطورة تنتهي بزواج النحات (بجامليون) بالتمثال (جالاتيا). وكذلك وظفت هذه الأسطورة من قبل عدة مسرحيين بأشكال مختلفة، لعل من أبرزهم “برنارد شو”، كما أن “توفيق الحكيم” وظف هذه الأسطورة أيضا في مسرحيته بجامليون. وهكذا يتضح أن المؤلف محمد بوزكو استطاع أن يعطي لنصه منحى إنسانيا وفلسفيا بانفتاحه على التراث اليوناني وربرتوار المسرح الغربي خاصة.

من الناحية الإخراجية نجد المسرحية مقسمة إلى أربعة مشاهد ينتهي كل مشهد ب (إِظْلام) ويبدأ المشهد الموالي بإضاءة حمراء تُسلط في الغالب على شخصية تيهيا دليل معاناة في محنتها ثم تمتد الإضاءة بعد ذلك لتشمل ألوانا أخرى وتضيء كامل الخشبة، لم تلجأ المسرحية إلى الضوء الأزرق وحده إلا بظهور التمثال الجالس على الكرسي، وهو لون حالم يعطي للمكان والزمان انسيابية وتمددا، لذا نجد تداخلا بين الواقع والخيال، لا سيما عندما يبدأ التمثال في الحركة والكلام.

ثمة مؤثرات صوتية مسجلة عن طريق البلاي باك مثل أصوات أبواب وأقفال حديدية تُفتح وتُقفل تدل على قدوم حارس السجن. كما أن الموسيقى التصويرية التي واكبت العرض كانت محدودة جدا وثابتة لم تتغير، رافقت فقط حركات (تيهيا) وهي ترسم أو ترقص. الحوارات في الغالب كانت مقتضبة تكتسي طابع التشنج والمواجهة، بين الحارس وتيهيا، أو بين تيهيا والتمثال، وقد ساهم هذا في إضفاء بعض الصراع وتدفق الأحداث في المسرحية. في المقابل نجد مونولوجات عبارة عن تساؤلات وتعقيبات على مواقف معينة انخرطت فيها كل من تيهيا وكذا الحارس زيري. الجانب الكوريغرافي في المسرحية من اشتباك أو حركات موزونة أفقيا وعموديا كان محدودا ومتواضعا. مما يشير إلى ضآلة الفرجة، وقلة الإبهار البصري أو الحركي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد