التعريب والتعدد اللغوي …الإشكال لا يزال قائما ؟ذ : محمد بادرة

0 1٬094

اعتبر التعريب من المبادئ الوطنية الأربعة التي تم الانطلاق منها لبناء المدرسة الوطنية المغربية بعد الاستقلال وكان التعريب إلى جانب التوحيد والتعميم والمغربة محاور مركزية في كل مشاريع الاصلاح التي عرفها تاريخ المنظومة التعليمية الوطنية، وكانت هذه المبادئ منسجمة إلى ابعد الحدود مع متطلبات تلك المرحلة.

فمنذ 1959 وأمام تحدي بناء الدولة الوطنية ثم الإعلان عن تعزيز استعمال اللغة العربية في المدرسة المغربية (التعزيز الكمي) لغاية توحيد التعليم العمومي و تجاوز الوضعية التي تركها المستعمر الفرنسي خصوصا وأن تجربة التعليم الحر بالمغرب كانت حاضرة وقوية بفضل احتضانها وتعزيزها من قبل الحركة الوطنية، ولقد أصبح التعليم المسمى “حرا” أو معربا تعليما عموميا فتهاوت المدارس الفرنسية ومستنسخاتها لتحل محلها تدريجيا مدارس مغربية حديثة يتلقى فيها التلاميذ و التلميذات تعليمهم باللغة العربية و اللغة الفرنسية معا (الفرنسية لغة تدريس المواد العلمية) وزادت سرعة التعريب مع خلق منافذ لإنقاذ المعربين (مدرسين ومتعلمين) موازاة مع الشروع في إعادة تنظيم التعليم الأصيل، وارتبط هذا المسار عضويا بمبدأ تعميم المغربة أكثر من ارتباطه بالتوحيد والتعريب، بل أن ترتيب هذه المبادئ عرف تغيرا بأسبقية دون أخرى عبر تاريخ الإصلاحات التعليمية.

وفي سنة 1970أصبحت المغربة في صدارة الترتيب يليها التعريب ثم التعميم ثم التوحيد وربما كان ذلك من أسباب تعثر مبدأ تطبيق مخطط التعريب وعدم وضوح أسس و غايات اعتماده مبدأ وطنيا بفعل تطور العلاقات الدولية والصراع الإقليمي والحرب الباردة وموقع المغرب ضمن هذا الصراع الدولي مع تطور الاكتساح التكنولوجي و ما يتطلب ذلك من انفتاح على حضارات و ثقافات و لغات عالمية.

وبعد مرور أكثر من ستة عقود على التطبيق الجزئي والعشوائي لهذه المبادئ، لا تزال المنظومة التعليمية تعرف خللا عميقا لم يعد ملائما لمتطلبات مغرب اليوم ولا للتطورات العميقة التي تعرفها نظم التعليم والتكوين في البلدان المتطورة، من ابرز مظاهر هذا الخلل عدم ملائمة هذا التعليم والتكوين لسوق الشغل وضعف المردودية الداخلية والخارجية، ومشكلة مدى تأهيل لغة التدريس كوسيلة تواصل وخطاب وأداة لنقل المعرفة دون إغفال مخطط تعريب المواد العلمية (عفوا ترجمة مفرداتها و مصطلحاتها لا غير) والذي شرع فيه منذ 1978 مما خلق وضعا لغويا ملتبسا ومتداخلا بين المجال المعرفي للمادة الدراسية وبين البعد الثقافي للغة التدريس.

إن التطورات التي عرفتها وسائل وهياكل انتقال المعرفة وبروز ظواهر اقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة بفعل تدويل الاقتصاد كل هذا جعل الساسة والمهتمين بالشأن التربوي بعيدون باستمرار في طرح السؤال المحرق عن المبادئ الكبرى للحركة الوطنية – وخصوصا مبدأ التعريب – وهي المبادئ التي شكلت أساس النضال من اجل المدرسة المغربية.

عرف مخطط تنفيذ التعريب عمليات مد و جزر ثم تراجع و توقيف في مرحلة من المراحل مما خلف اثأرا سلبية على المسارات الدراسية للتلاميذ بمجرد معاصرتهم لفترة دون أخرى، وذلك بفعل التحولات السياسية و تأثيرها القوي على المخططات التربوية وبرامج التعليم. و اذا كانت قد تحققت المغربة بشكل واضح و مكثف دون إعطاء مسالة التكوين والتأهيل أولوية ضرورية الا انه لم يواكبها كيفية توظيف اللغة العربية في ميادين علمية حديثة مما أدى إلى تحول تدريس المواد العلمية باللغة العربية إلى مجرد ترجمة الرموز والمصطلحات والمفاهيم، وكان لذلك اثر كبير على تكوين التلاميذ وخلق صعوبات للتكيف مع شروط التعليم في المرحلة الموالية(لقد تم تعميم التعريب سنة 1988 بالتعليم الثانوي بعد أن ثم الشروع فيه بالابتدائي سنة 1978 أما التعليم الجامعي فاستمرت الدراسة فيه باللغة الفرنسية في اغلب التخصصات العلمية والتقنية)

(المنتدى الوطني للإصلاح- المكتسبات والأفق) : ص 141

إن الاختيارات اللغوية قد خلقت صعوبات وأبرزت مشاكل جديدة حدت من ولوج الأغلبية الساحقة للتلاميذ لمدارس و كليات خاصة لكونها تشترط التفوق الدراسي في اللغة الفرنسية، وهذا ما دفع علية القوم يلجؤون إلى مدارس البعثات الأجنبية مما وضع المنظومة التربوية الوطنية في تحد جديد وخلق مشاكل من نوع جديدة لتلاميذ المدرسة المغربية.

لتجاوز هذا الاشكال اللغوي :

دعا الميثاق الوطني للتربية و التكوين إلى توسيع فضاء اللغات داخل النظام المدرسي وذلك بإقرار اللغة الفرنسية منذ السنة الثانية من التعليم الابتدائي وإدخال لغة أجنبية ثانية في التعليمين الابتدائي والإعدادي وإقرار اللغة الامازيغية كلغة وطنية يجب تدريسها للتلاميذ في المدارس الوطنية في التعليم الابتدائي اعتقادا في أن توسيع هذا العرض اللغوي سيموضعنا ضمن نسق لغوي لساني متعدد ولكنه خلق وضعا معقدا.

إن توسيع مجال اللغات لم يتم بطريقة متدرجة تجعل المتعلم يكتسب أولا لغتيه الوطنيتين(العربية و الامازيغية) ثم المرور بعد ذلك إلى اللغات الأخرى (الأجنبيتان الأولى والثانية) مما خلق انعكاسات متعددة على أنماط الكفايات اللغوية الواجب تطويرها و إنماؤها لدى المتعلم وكذا على المقاربات البيداغوجية و الديداكتيكية والثقافية اللازم توظيفها لتعليم كل واحدة من هذه اللغات إضافة إلى ضعف حلقات التكوين المستمر للمدرسين و المفتشين.

والواقع (أن كل مجتمع يعرف مشكلة لغوية، إنما الفرق بين مجتمع وآخر هو مقدار الوعي بالمشكلة، ومقدار الجدية والهمة في معالجتها ). عبد الله العروي – ثقافتنا في ضوء التاريخ – 209

اليوم وكما بالأمس يعود نقاش التعريب إلى سطح الأحداث بعد مصادقة البرلمان على القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وفيه تم إقرار التعدد اللغوي أو بالأحرى التناوب اللغوي كخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، وجزء من هذا النقاش الحاد حول التعريب والتعدد اكتسى طابعا ميتافيزيقيا حول مسالة التعريب حيث تحركت بعض الأصوات من باب العاطفة “القومية” تدعو للتعريب اللغوي دون التعريب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي، في حين دعت أصوات أخرى إلى إزاحة التعريب من الفصول الدراسية باسم الحداثة والتقدم ومسايرة العصر.

الكثير من المدافعين عن تعريب المقررات لا يعنون ( بالتعريب سوى تعميم ذلك اللسان والمنطق المتضمن فيه.) ويعتقد الأستاذ عبد الله العروي(أن هذا

الاتجاه خاطئ منهجيا وخطير على المجتمع إذ محكوم عليه أن يحارب كل تجديد ثقافي، انه مبني على واقع يظهر أول الوهلة وجيها إلا انه يخطئ فهم وتقويم ذلك الواقع.) عبد الله العروي – ثقافتنا في ضوء التاريخ – ص221

أما التعدد فيراه خصوم التعريب باعثا على التسامح والمساواة بين الثقافات والشعوب، وأداة لتنمية قدرات المتعلم على التواصل.

ولفهم جانب من مسالة التعريب وخلفياته، أمكننا الاستئناس بقراءات واجتهادات الفقيه اللغوي والباحث أللسني الرصين عبد القادر الفاسي الفهري مدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب و اشراقات المفكر والمؤرخ المغربي العتيد الاستاذ عبد الله العروي.

هل المجتمع يمكن له أن يكتفي بلغة واحدة ؟

رأى الأستاذ عبد الله العروي انه لا يوجد مجتمع يمكن أن يكتفي باستعمال لغة واحدة حيث هناك مستويات لغوية متفاوتة في كل مجتمع، ميز منها أربعة ورتبها من الأقل إلى الأكثر تجريدا :

ü اللهجات وهي المستعملة في الحياة اليومية.

ü اللسان المكتوب وهو لهجة وقع عليه الاختيار لسبب من الأسباب ليكون وسيلة للتخاطب الرسمية، إنها لهجة الطبقة الحاكمة في البلاد.

ü -لغات اصطلاحية تلجا إليها فئات متخصصة مثل أصحاب الصناعات والمعارف.

ü -المنظومات الرمزية للعلوم النظرية(الرياضيات الفيزياء….)

وكل مجتمع يعرف هذه المستويات اللغوية الأربعة ولكن المستوى الثاني هو المتميز عنها، وهو مستوى اللسان المقوعد لأنه يقوم بدور الوساطة، أما اللهجات واللغات الاصطلاحية والمنظومات الرمزية فتروج في محيطات ضيقة .. (واللسان المقوعد يؤدي على ذلك ثمنا غاليا ألا وهو الجمود وعدم التطور …وذلك لأنه مقوعد ) . “ثقافتنا في ضوء التاريخ” – عبد الله العروي ص 211/212

وجود هذا التعدد اللغوي واللهجي الذي تعرفه المجتمعات جعل الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري يدعو إلى سن سياسة لغوية متزنة ومتوازنة تنظر إلى مختلف مكونات الوضع اللغوي بالمغرب، وهي أن لا تهيمن اللغة الأجنبية على السوق اللغوية الوطنية فتضيع اللغة العربية واللغات واللهجات المحلية، ولا هيمنة اللغة العربية وحدها فتضيع اللغات الأجنبية التي هي أداة الانفتاح.

يرى الأستاذ الفاسي الفهري ان التعدد اللغوي محمود لانه رأس مال يمكن توظيفه في الاتصال بالثقافات والشعوب الأخرى وان كان أن هذا الأمر قد يؤدي إلى إشكالات ومتاعب وصعوبات على مستوى المجتمع وسياساته الاجتماعية والثقافية والتربوية .

إن السياسة اللغوية المتزنة تقوم على مبدأ التعدد والتنوع اللهجي من جهة وعلى مبدأ التعدد اللغوي من جهة ثانية، والتعدد اللغوي هو الذي يتيح الانفتاح على العالم ويتيح الوصول إلى المرجعيات والمعلومات التي نحتاج إليها والتي لا تمكننا اللغة العربية وحدها من ربط الصلة بها

هل الازدواج اللغوي قائم في منظومتنا ؟

يرى الأستاذ الفاسي الفهري انه لا توجد ازدواجية لغوية في المغرب خلافا لما يعتقد الكثيرين من المتتبعين للشأن اللغوي فالازدواج اللغوي الرسمي قائم في كندا وبلجيكا أو سويسرا لأنه يتيح للمواطنين في هذه الأقطار أن يستعملوا لغتين على قدم المساواة للتوظيف في قطاع التعليم والإدارة والاقتصاد والحياة اليومية فتكون الازدواجية (فرنسية-انجليزية) – (فلاما نية –فرنسية) – (فرنسية -ألمانية) ناتجة عن تكافؤ في وظيفية اللغتين وقدرتهما على التعبير في مختلف المجالات.

أما في المغرب فان الازدواج اللغوي غير وارد لان اللغة العربية لم تتح لها فرصة القيام بالأدوار الكبرى التي وكلت وتوكل للغة الفرنسية في الإدارة والاقتصاد والمجالات العلمية الدقيقة، فنحن كما يرى الأستاذ الفاسي الفهري بإزاء تشقيق لسني لا ازدواج لغوي فعلي أو ثنائية لغوية كما هو الشأن في كندا مثلا ولا ازدواج لهجي طبيعي كما نجد في ملا سنة العربية والعامية .

كل ما هناك هو وجود لسان ينخره التشقيق لأنه موزع بين عبارة لغوية فرنسية (في المجالات المرموقة) وعبارة عربية (فصيحة أو عامية) في الدين

والخطب الرسمية والحياة اليومية ولكن اللغة الفرنسية في هذا الوضع مهيمنة مما ينتج عنه التشقق والتشتت.

قطعا ليس هناك ازدواج لغوي في التعليم، ففي التعليم الجامعي لا يتعلم المغربي الفيزياء والرياضيات أو المحاسبة أو المالية… إلا بالفرنسية كما ليس هناك ازدواج لغوي في الاقتصاد لان مؤسسات المال والبنوك والاقتصاد وشركات الخدمات لا تشتغل أساسا إلا بالفرنسية. ولو كان هناك ازدواج لغوي فعلي لكان خطوة فعالة في اتجاه التعريب .

التعريب رد فعل سياسي لا مشروع ثقافي

اعتبر الأستاذ عبد الله العروي أن لمشكل التعريب وجهين :

– أ- كون اللسان الأجنبي حل محل اللسان الأصلي في دور الوسيط بين اللغات الاصطلاحية التي تستعملها الفئات المختلفة في المجتمع.

– ب- كون هذا اللسان الأصلي الذي ضبطت قواعد توليد مفرداته وتراكيبها …منقطعة عن اللغات التي تكون بدورها قد توقفت عن النمو بسبب جمود المجتمع.

الوجه الأول نشا عن القهر والاحتلال الأجنبيين، فأصبح اللسان الدخيل عنوان التقدم والعلم والأناقة، واللسان الأصلي سمة كل ما هو متخلف و أعطى الأستاذ عبد الله العروي أمثلة عن ذلك: فهذا موظف يخاطب الزبون بلسان أجنبي ليظهر نفوذه، وهذه أم تخاطب ابنتها باللسان نفسه للإعلان عن انتمائها إلى طبقة راقية…إلى غيرها من المظاهر المؤسفة المضحكة التي نلاحظها اليوم في المغرب الكبير.

لذا فالدعوة إلى التعريب في هذا المجال له مغزى سياسي واضح : (إنها دعوة إلى الوحدة الوطنية ومحاولة لإيقاف تيار خطير يحول التقسيم الاجتماعي إلى تقسيم لغوي وثقافي فالتناقض الذي كان موجودا أيام الاستعمار بين الجالية الأجنبية والشعب المستعمر يتحول إلى تناقض بين النخبة الحاكمة ذات النفوذ الاقتصادي وباقي الطبقات المحكومة والمحرومة) .المرجع السابق- ص 214

إضافة إلى هذا التفسير التاريخي–السياسي فان الوضع اللغوي للسان الأصلي المقوعد عرف اختلالا وجمودا بفعل انقطاعه عن سيرورة التطور التاريخي والثقافي والحضاري وهو نفسه الوضع الذي عانت منه حتى بعض اللغات العالمية كالفرنسية مثلا وأشار إلى أن (علوما بكاملها تدرس في معاهد حرة باللسان الانجليزي، وان المتخصصين بالإعلاميات مثلا يستعملون لغة مليئة بالمصطلحات الأمريكية ومتأثرة في تراكيبها بالأنماط الانجلوساكسونية إلى حد أنها لم تعد تخضع لقوانين النحو الفرنسي المعهود، وأنت تقرا الآن في صحفهم مقالات تشبه كثيرا ما نكتبه نحن عن التعريب ) ص 215.

هل التمسك بالتعريب شرط للحفاظ على الهوية ؟

يرى الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري في مقال نشر بإحدى الجرائد الوطنية في سنة 1995 انه إذا كان من حق المواطن المغربي أن يتعلم الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات والاقتصاد باللغة الفرنسية فان من باب أولى وأحرى أن يكون من حقه تعلم هذه العلوم والصناعات باللغة العربية.

وعلى الدولة أن توفر له ذلك لان العربية لغة الدستور والوطن ولا يعقل أن تدرس العلوم والصناعات بلغة أجنبية فقط دون اللغة الوطنية فتعريب لسان المتعلم في مجالات العلوم والاقتصاد شيء ضروري لجعل اللغة العربية لغة تامة ولتلافي هيمنة اللغة الأجنبية وشعور متكلميها بالتفوق وإحداث خلل وتشقيق في لسن المتكلم المغربي بحيث يلجا إلى استعمال اللغة الفرنسية كلما أراد التعبير في مجال من المجالات المرموقة.

ويضيف الأستاذ الفهري في نفس المقال أن انفراد اللغة الأجنبية بهذه الوظائف المرموقة يحدث خللا واضحا في موقف المتكلم تجاه لغته فيشعر بنقصها وتدهور وظيفتها ومحدودية الفرص في استعمالها وفي الحصول على مناصب شغل… وتشقيق اللسن بهذا الشكل ينتج عنه الانفصام والشعور بالنقص والتشكيك في الهوية…وكلازمة لتعريب المتكلم في التعليم ينبغي تعريب المحيط والمحيط الاقتصادي على الخصوص.

ولتحييد موقفه من التعريب وخلافا للرأي السائد فان التعريب في نظر الفقيه اللغوي لا يعني بالضرورة إحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية، بل يعني أولا جعل اللغة العربية لسانا معبرا في مختلف القطاعات بمختلف الوظائف حتى يصبح اللسن العربي تاما أما إحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية فهي خطة للتدخل اللغوي لتغيير وضع اللغة في المحيط .

دور التعريب هو المد والزيادة في وظائف اللغة العربية لتؤول إلى لسان عربي تام وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا بسياسة التعريب المدعوم .

التعريب المدعوم باللغات الأجنبية

التعريب المدعوم في نظر الأستاذ الفاسي الفهري هو سياسة لغوية يمكن أن يتحقق عبر سياسات وطنية وخطط متنوعة بما فيها الازدواج أو التعدد اللغوي المتزن خلافا لما يعتقد .

والتعدد في نظر الكاتب مشروع طموح وصعب، قد يخل بالاندماج الوطني والاستقرار والتناغم المجتمعي إذا لم تكن الشروط البيئية والنفسية والثقافية جاهزة من اجل خدمة الأساس اللغوي الاندماجي .والدعوة إلى الازدواج اللغوي أو التعدد اللغوي في قطاع من القطاعات لا يعني ضرورة ازدواجية اللسان أو الألسن ويعطي أمثلة عن ذلك : فالهولندي أو الفرنسي أو الألماني يتعلم اللغة الانجليزية ويتقنها لتصبح لديه وسيلة اتصال بما يجد في ميدانه من معلومات وتقنيات ولكن هذا لا يعني انه يتكلم بها في محيطه (حتى ولو كان في الجامعة مثلا)، بل إن اللغة الأجنبية لا تصبح لسانا معبرا إلا في حالات خاصة ومحدودة، هذا الوضع هو ما ينبغي أن يكون عليه التعريب المدعوم باللغات الأجنبية والتعريب المدعوم لسانه المعبر في المحيط المغربي واحد هو اللسان العربي وان كانت اللغات الأجنبية وسيلة للاتصال قد توظف في مجالات محدودة.

التعريب المدعوم يمكن المغربي من الوصول إلى ما يصل إليه الأجنبي من معلومات لتوسيع معرفته ولتغطية مرجعيات مجاله وهو من جهة أخرى يمكن

المغربي المفرنس أو المنجلز من قراءة النص العربي وفهمه بناء على نص داعم بلغة أجنبية وبهذا يتجه التعريب المدعوم في اتجاهين متكاملين.

ولقد تساءل الأستاذ عبد الله العروي لماذا لا نرضى بما يؤول إليه التطور تلقائيا، أي الازدواجية اللغوية؟ ولماذا لا نرحب بحالة مثل حالة الهند التي أحرزت درجة لا باس بها من العلم والتكنولوجيا؟ وهل هناك مصلحة حقيقية في طرح قضية التعريب سوى تعلق عاطفي بتراث عقيم، وسوى مصلحة فئة قليلة من الفقهاء والأدباء والنحاة .

إن تدويل الاقتصاد، وتدويل المعلومة، وتدويل قنوات الاتصال .. كل ذلك أصبح يفرض علينا الوعي بوجود نظام دولي في كل شيء، والذي يحرك هذا النظام و يؤطره ويتحكم فيه هي القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الأوربية، لذا فان إرساء المغرب وانخراطه في النظام الدولي عبر اللغة الفرنسية وحدها ليس موفقا، وان تنويع أدوات ولغات الإرساء قد يؤدي إلى نتائج أفضل .

اللغة هل لها تأثير على المستوى التعليمي ؟

عدد من المتتبعين للشأن التعليمي يقرنون التعريب بانخفاض المستوى ويقرنون الازدواج اللغوي بارتفاع المستوى، وهذه مغالطة منهجية لان المشكل مطروح حتى بالنسبة للغات الأجنبية الأخرى، فإذا أخذنا لغات دول راقية أو مصنعة مثل فرنسا أو ألمانيا أو اليابان فإننا لا نجد في لغات هذه الدول ما يكفي من المعلومات وهي تحتاج إلى إيجاد دعم مرجعي للغتها الوطنية عن طريق الانجليزية أساسا وبالتالي فان اللغة العربية ليست وحدها في وضع الضعف المرجعي النسبي ولكن من الخطأ أن نعتقد أن الدعم المرجعي المتوفر عن طريق الفرنسية كاف لبلوغ ما نرومه .

إن مشكل انخفاض المستوى لا يتعلق باللغة العربية وإنما يتعلق بوسائط أخرى من جملتها ضعف مجالات كثيرة وضعف المحيط والمنظومة التي نعيش وسطها.

ضعف المستوى ليس مشكل لغة تعليم بل ضعف كل ما يحيط بنا حتى إذا وضعنا المشكل في إطار النسبية فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن المتعلم باللغة العربية اقل مستوى من المتعلم باللغة الفرنسية بل إن المتعلم باللغة العربية الذي يعرف الانجليزية غالبا ما يكون في مستوى اعلي من المتعلم باللغة الفرنسية (الأردن – لبنان – العراق – سوريا ….)

يرى الأستاذ الفاسي الفهري أن الصراع التحرري والصراعات الأخرى ذات الطبيعة السياسية مازالت قائمة حول مشكل اللغة ولا يمكن أن يحصل التعدد اللغوي الايجابي إلا بتهيئي الأوضاع البيئية والنفسية، وتمثل المدرسة البيئة الطبيعية لخلق التوازنات اللغوية الايجابية التي من شانها خدمة المواطنة والمجتمع المستقر المترسخ المتناغم مع جذوره وأصوله، والقادر على الاتصال مع غيره .(انتهى كلام الأستاذ الفاسي الفهري)

الاصلاح اللغوي مرهون بالإصلاحات الكبرى … وبشكل مستمر

إن قرار إصلاح اللغة هو من أصعب القرارات في تاريخ كل مجتمع، ولا يجرا على اتخاذها إلا الزعماء الأقوياء و في بلد

ذو نظام قوي … ومن الذين اتخذوا مثل هذه القرارات في تاريخ الثقافة العربية، عمر بن الخطاب – عبد الملك بن مروان …وما أن ضعف حكم العرب واستولى عليهم العجم حتى أحجم كل حاكم عن ميدان اللسان وترك الأوضاع تسير حسب قوانينها الذاتية.

يستخلص من هذه الرأي الذي طرحه العروي أن قضية اللغة هي في العمق قضية إصلاح متواصل و ليست خاصة باللسان العربي ولا متولدة عن بنية خاصة به … ويكتسي الأمر صفة مشكل حاد عندما تحدث ظروف تمنع من اتخاذ القرارات لتحقيق الإصلاحات اللازمة ومنها انعدام حكم قومي (عبد الله العروي – المرجع السابق – ص 219)

ان الوعي بضرورة الإصلاح لم يبعث من جديد إلا بعدما جاءت الصدمة الاستعمارية وعندما دخل المجتمع العربي في صراع مرير مع الغرب وكان

التناقض بين الأوضاع اللغوية في كلا المجتمعين في مستوى التناقض الموجود على الصعيد العسكري والصناعي والاقتصادي، و(لا نقصد أن أي لسان غربي كان اشمل تنسيقا من اللسان العربي بل العكس هو الصحيح إنما نقصد أن اللسانين الانجليزي والفرنسي إلى حد اقل كان أكثر التصاقا وتأثرا باللهجات واللغات الاصطلاحية والرموز من اللسان العربي.

من الشطط القول أن الاستعمار خلق قضية التعريب إنما خلق قضية موازية لها عرفناها بالمشكلة الاجتماعية إذ نزع الصفة القومية عن الطبقة الوسطى التي أحدثها، ثم في العمق فانه بعث من جديد الوعي بالإصلاح.

اذا كنا نعني بالتعريب الحفاظ على صورة عارضة للعربية انجزها تطور تاريخي معين وجمدت لأسباب سياسية واجتماعية معينة فإننا لن نفعل سوى المحافظة على اصل المشكل ونؤخر الاصلاح الضروري ومن يقول ان اللسان المعرب شكل حتمي تام ونهائي ما كان ان يكون ولا يمكن ان يكون على الصورة التي تحققت بالفعل يحكم على نفسه بتركيز الازدواجية التي نراها اليوم على درجتين : تساكن اللسان المعرب واللهجات في الحياة اليومية ومزاحمة لسان اجنبي للسان المعرب في المدارس والجامعات )ص 223

كثيرا ما نقف من المسائل اللغوية موقفا عاطفيا ظنا منا ان اي تساؤل ينم عن نيات خبيثة عن مؤامرة مبيتة ضد الرباط الوحيد الذي ما زال يجمع بين عرب اليوم لهذا الموقف مبررات كثيرة ترجع الى تجربة الاستعمار الذي حاول ان يقصي اللسان العربي من حقل الحياة العامة باعتبار انه وعاء الوجدان القومي.

لكن في ظروفنا الحالية لم تعد العاطفة تلعب الدور الايجابي المعهود بل اصبحت حاجزا يمنع من ادراك حجم وعمق المشكلات ويجب التحرر منها.

كيف ذلك في نظر العروي ؟

عن طريق ادخال الاصلاحات الصرفية والكتابية والنحوية و المعجمية فيتحول معها هذا اللسان الى لسان يختلف عن اللسان الحالي بهذه الطريقة

نقضي على الازدواجية ونبدع وسيلة للتفاهم سهلة وطيعة قادرة على ترويج ثقافة جماهيرية وعصرية اي حاملة في كنهها فكرة الاصلاح الضروري المتواصل.

قد يعجبك ايضا

اترك رد