… اللص الشريف لا يسرق لصاً آخر…. للكاتب التركي عزيز نسين

0 671

أحد نزلاء المهجع الأول الحكواتي الأول في عموم السجون التركية. كان معززاً مكرماً إلى أبعد الحدود. يتنافس سجناء المهاجع على ضمه إلى مهجعهم. لقد استطاع سجناء المهجع الأول استمالته إليهم لأنهم تعهدوا بأن يدفع كل شخص عشرة قروش في كل ليلة. كما وعدت المهاجع الأخرى بدفع المبلغ نفسه عن كل فرد. لكن الحكواتي فضل البقاء في المهجع الأول لأنه يضم أكبر مجموعة من السجناء. لقد قدموا له سريراً في الطابق العلوي لأحد الأسرة في موقع يمكن رؤيته والاستماع إلى حكاياته.

كان الحكواتي من الرجال الذين يقال عنهم أن العسل يقطر من أفواههم، لأنه يجذب المستمعين إليه وعم ينظرون إلى داخل فمه. أحاديثه شيقة، كلماته عذبة، يتحرق الجميع شوقاً إلى حديثه والإصغاء له. كانت حكاياته هي التسلية الوحيدة في السجن.

لم يكن يحفظ عشرات الروايات والقصص فقط، بل المئات. يروي لهم الروايات التي قرأها سابقاً، دون العودة لقراءتها ثانية. ومن أمثال هذه الروايات: سلسلة باردليان، شرلوك هولمز، الفرسان الثلاثة، الكونت دي مونت كريستو، بائعة الخبز، مدير خانة الحدادة، البؤساء. كان يقسم الرواية إلى حلقات، يسرد لهم كل ليلة حلقة واحدة بحيث تنتهي الرواية خلال أربع أو خمس ليالي. حتى الذين سبق وقرأوا تلك الحكايات كانت تتملكهم رغبة عارمة بسماعها من جديد، لأن للحكواتي أسلوباً بارعاً في روايتها بصورة أفضل من قراءتها في الكتاب، وأجمل من النص الذي اختاره المؤلف. وكان الحكواتي في بعض الأحيان يكرر الحكاية نفسها ولكنه وعن غير قصد ينقص أو يضيف بعض المقاطع، عندها ينهض المستمعون من أماكنهم ويصرخون طالبين تصحيح الخطأ أو تدارك النقص قائلين:
– لا ولك عمي.. أنت تجلط (تختلق).. هذا غير صحيح.

لقد رغب الحكواتي في إجراء هذا التغيير حسب المكان والزمان لكل مستمع، من أجل إدخال الفرح والبهجة إلى قلوب المساجين.
بعد أن يأوي الجميع إلى أسرتهم في ساعة متأخرة من الليل، كان الحكواتي يتمدد على فراشه ويكمل الرواية. لم تكن الرواية تتكرر كل ليلة، هناك روايات أخرى خاصة يقصها الحكواتي في ليالي ومناسبات خاصة. على سبيل المثال: روايات لها طابع خاص تتوافق مع الناسبة /ليالي رمضان/ ، /ليلة النصف من شعبان/ ،/ الليالي المباركة/ ، /ليلة رأس السنة/، في بعض الأحيان كان يقص عليهم روايات مستهجنة /إباحية/. عندما كان يقص الروايات العادية، يقف بعض المستمعين يستوضحون ويبدون رأيهم وملاحظاتهم. أما عندما تكون الرواية إباحية، فإن الحاضرين يلتزمون الصمت، باستثناء بعض أصوات الشخير الخفيف الصادرة عن بعض الأسرة. وعندما ينهي الحكواتي المقطع المخصص من الرواية لتلك الليلة، كان بعضهم يطالبه بمتابعة سردها. وكان الحكواتي أيضاً ينمق الروايات والقصص الاباحية، وكأنها من تجاربه الكثيرة، وعندما يحاول قطعها في موقف حرج وشيق، كان الجميع يقفزون من أسرتهم مطالبين بمتابعة سرد الرواية، ويصل الموقف أحياناً إلى ضرب الحكواتي.

في شخص الحكواتي عادة غير مرغوب فيها وهي إدمانه على المخدرات، فعندما يتناولها يشعر بنشاط وحيوية ويجود في حكاياته، ومن ثم يفاجئه النعاس ويحاول النوم وهو يسرد الحكاية. لذلك يضعون في سرير بجانبه رجلاً قوياً ينهره بقوة ليوقظه ويمنعه من النوم.
يحدث أحياناً كثيرة أن الحكواتي كان ينام وسط الجملة، ويلفظ أحياناً نصف الكلمة وأيضاً الحرف الواحد. وعندما يحاول أحدهم إيقاظه يعود ثانية إلى المكان أو الجملة التي توقف عندها. وبما أنه مدمن على المخدرات فإن لفافة التبغ تبقى دائماً مشتعلة بين أصابعه، وتسقط أحياناً على فراشه مسببة حرقه. مرات كثيرة يوقظه سجناء المهجع وهو على وشك الاختناق بدخان الحريق ولم يكن يشعر باحتراق أصابعه لأنها أصبحت منيعة على الاحتراق من كثرة ما أصابها منه.

كان جميع من في المهجع يحتارون ويستغربون أمر هذا الحكواتي، كيف يستطيع حفظ كل هذه القصص والروايات وإعادة حكايتها بأسلوب بديع أخاذ وممتع. لقد كان يعرف قصص وروايات الكتاب المحليين، وكثيراً ما يطلبون منه أن يقص عليهم الروايات المحلية الشهيرة مثل: طائر الديس (العليق)، / بقالية الذباب، من الشفاه إلى القلب/. كانت نبرات صوته تؤثر على المستمعين . يقال أن الحكواتي من عائلة ميسورة، قرأ في شبابه الكثير، وامتلك ثقافة عالية. يحكي الرواية بأسلوب ممتع يدفع مستمعيه إلى البكاء أو إلى الضحك متى أراد. يقول بعضهم إنهم لم يبكوا بهذا القدر عندما يشاهدون الأفلام المحلية. وهكذا كان السجناء يقدمون له القروش العشرة عن رضى وطيبة خاطر.

إضافة لذلك كان يمتلك مهارات عالية في تحريك فمه وأنفه وأذنيه. يعزف المزمار في أنفه، والترومبيت بشفتيه، والطبل بخديه، ومن ثم يصدر أصواتاً قريبة من أصوات الكلارينيت والكمان. كان يتفاخر بأنه يصدر هذه الأصوات، حسب السلم الموسيقي، والعلامات الموسيقية. والمستمعون مستلقين على أسرتهم ظناً منهم أنهم يسمعون صوت طبل وكمان حقيقيين.

أحياناً يضرب حافة السرير بمفتاح في يده مصدراً صوتاً كصوت الجرس. كأنه يقوم بمهمة جوقة موسيقية بمفرده. إلى جانب ذلك، كان يمتلك موهبة التقليد. فهو يحكي روايات /حسين رحمي/ مقلداً أصوات أبطال القصة. وفي بعض الليالي يغنّي بعض الأغاني الخفيفة أو يقوم بعرض خيال الظل / كركوز وعيواظ/، ويحكي النوادر عن أصحاب المغامرات القديمة، يتحدث عن خالد الأيوبي زير النساء، الذي كان يغوي النساء ويسيطر عليهن، ويتحدث عن النصابين وقطاعي الطرق، وحكايات أخرى مخيفة.

كان مساجين المهجع الأول يدفعون له عشرة قروش عن الفرد الواحد وفي كل ليلة يستغرب نزلاء السجن سلوك هذا الحكواتي كيف أنه بهذه القروش العشرة يشتري المخدرات ويأكل ويشرب ويعيش حياة رفاهية. في الوقت الذي كان فيه الحكواتي معززاً مكرماً في المهجع الأول، والأكثر شعبية في السجون التركية وأن جميع المهاجع كانت تطالب به عدا الموجودين في مجهع /السادة/ وآدم بابا/ هؤلاء النزلاء لم يرغبوا به ولم تعجبهم حكاياته ورواياته وأحاديثه كونهم أغنياء ميسورين. أما المساجين في آدم بابا فجلهم من الفقراء البسطاء، لا يملكون الدراهم، ولا يفهمون شيئاً من كلام الحكواتي.

ما يميز الحكواتي أنه كان يسرد رواياته وقصصه وخاصة الإباحية منها بحماس وانفعال، يثير بها مستمعيه ويحرك أحاسيسهم ومشاعرهم، أما هو فيظل هادئاً ساكناً غير متأثر بما يرويه لذلك أطلقوا عليه اسم “قواد”، شأنه في ذلك شأن امرأة مومس تعاشر الرجال دون أن تستمتع بهم. مثلها الحكواتي فقد أصبح عديم الإحساس والشعور من كثرة ما يردده من القصص والروايات على مر السنين، يضاف لذلك إدمانه على المخدرات التي انتزعت منه كل ما يثير فيه من الانفعالات والعواطف.

في أحد الأيام وفي لحظة قصيرة اختفت ورقة من فئة الخمسمائة ليرة من فوق سرير أحد المساجين. هذا أمر مثير للتساؤل، فالجميع في هذا المهجع من اللصوص وأصحاب السوابق ومن المستبعد أن يقوم سارق بسرقة مال أخيه السارق. هناك مقولة أن السارق لا يسطو على زميله السارق ولو مات جوعاً. وفي مهنة السرقة أو اللصوصية لا يجوز سرقة السارق. لذلك فالملجأ الآمن للسارق هو المكان الذي يتجمع فيه اللصوص. كيف حدثت سرقة الخمسمائة ليرة، لص سرق أموال لص آخر، هذا غير ممكن ومستحيل. هل اقتربت نهاية العالم. بدأ السجين الذي تعرض للسرقة بالصراخ قائلاً:

لقد دنستم شرف المهنة، وجعلتم قيمتها بقرشين. أنا لا أهتم للمال الذي سرق مني، بل للحالة التي وصلنا إليها.
من الذي قام بالسرقة؟ اللصوص المتواجدون في المهجع لا يفعلونها، لا شك أن من فعلها هو ذلك الشخص المدمن على تعاطي المخدرات. عندها شعر الحكواتي أنه المقصود باتهامهم. صاح متحدياً سجناء المهجع: فتشوني اذا لم تفعلوا فأنتم عديمو الشرق والناموس.. ظل يصرخ بتلك العبارة ويتحرش بهم ويقول فتشوني.. فتشوني..

إصراراه الشديد زاد من شكوكهم.. لو أنه لم يسرق لما تصرف بهذه العصبية وبهذا الالحاح فتشوني .. فتشوني.
فتشوا بدقة متناهية سريره وحقيبته.. خلال هذا التفتيش جن الحكواتي وتعالى صوته وزاداد شدة وضراوة.. وبدأ يشتم حيثما زلت لسانه الأهل والأخوات.. قال أحد المخضرمين المحترفين من اللصوص: هل تنطلي مثل هذه الأمور علينا إذا لم يكن هذا الرجل قد سرق المال فأنا لا أعرف شيئاً. وبنبرة قاسية صرخ في وجه الحكواتي وقال:
– ولك اخلع ثيابك.
خلع الحكواتي ثيابه الخارجية والداخلية ووقف عارياً كما ولدته أمه. صرخ اللص المحترف القديم في وجهه: انحني ولك. مؤخرتك للأعلى ورأسك لأسفل.
سحب السارق المحترف المال المسروق من شرج الحكواتي كما لو وضعه بيده وصرخ في وجهه: ألاعيبك لا تنطلي علينا. هل ستدلنا على الطريق يا ابن الجمهورية. نحن لصوص منذ أكثر من أربعين سنة. وجه أحد اللصوص كلامه للص المحترف من حسن الحظ أنك أصبحت لصاً شريفاً وليس شرطياً.

بعد هذه الحادثة أرادوا طرد الحكواتي من المهجع إلا أنهم استبعدوا الفكرة وقالوا فيما بينهم أنه يسليهم في الليالي الطويلة، ولن يجدوا آخر مثله. استاء الحكواتي مما حدث، وخاصة أن المخدرات انعكست سلباً على تصرفاته فقد رفض أن يقص عليهم كما اعتادوا كل ليلة متذرعاً بالمرض. فاضطروا إلى نقله لمهجع آخر. وأبلغوا مدير السجن بطلب نقله بعد إعلامه حادثة السرقة.
مع انتقال الحكواتي من المهجع الأول إلى مهجع آخر.. ظل مكانه فارغاً.

قد يعجبك ايضا

اترك رد