بيداغوجية “الطوبة” .

0 409

بقلم : الأستاذ عزيز لعويسي

*قبل أسابيع تم تداول مقطع فيديو قصير على الفضاء الأزرق، يوثق لتلميذ – إذا ما جاز توصيفه بذلك – يفتح محفظته أو “شكارته” الفارغة على الأصح، ويطلق العنان لفأر كبير “طوبة” لتصول وتجول بطلاقة بين جنبات الحجرة الدراسية وسط صيحات وقهقهات التلاميذ، في مشهد عبثي ينضاف إلى طابور الكثير من المشاهد والسلوكات اللامدنية التي امتدت كالجائحة إلى داخل الفضاءات التربوية، بل وتجاوزت ذلك إلى داخل حجرات دراسية يفترض أن تحاط بما يلزم من مفردات المسؤولية والاحترام والتقدير والوقار، ويكفي في هذا الإطار أن نستحضر ما شهدته خلال السنوات الأخيرة، الكثير من الفصول الدراسية التي حضر فيها “البراد” و”الكؤوس” و”الشاي المنعنع” و”المسمن” و”الخبز” و”الزيت البلدية”، وقص “سنابل القنب الهندي” و”الماكياج” …، كما وثقت ذلك العديد من الفيديوهات التي انتشرت في الفضاء الأزرق كما تنتشر النار في الهشيم، وما خفي كان أعظما …أن ترتفع جرعات الجرأة أو “الزعامة” باللغة الدراجة، إلى حد المجازفة بإحضار “طوبة” بداخل “شكارة” وإطلاق سراحها داخل الحجرة الدراسية بدون حرج أو خجل أو حياء، فهذا معناه أن عبث “البعض” وصل مداه ومنتهاه، وبكل أسف وحسرة، لا يمكن إلا “الافتخار” بما أقدم عليه هذا “التلميذ” القادوسي (نسبة إلى القادوس) من إنجاز بيداغوجي وديدكتيكي، حطم من خلاله كل القواعد التربوية والضوابط الأخلاقية والقيمية، بعدما أخرج “الطوبة” عنوة من طقوسها الاعتيادية داخل أروقة “القوادس” و”القرقرات” و”الطواليطات”، وأدخلها إلى عالم المعرفة والتحصيل، رغم أنه تناسى أن يلبسها “الطابلية” ويحضر لها “الشكارة” و”الكراسة” و”القلم” وربما حتى “زادها اليومي”، وأمام هذا السبق البيداغوجي والديدكتيكي، ندعو عبر هذا المقال الباحثين في علوم التربية والديدكتيك، من أجل التفكير من الآن، في بلورة بيداغوجيا جديدة خاصة بالطوبات، تؤطر طرائق التعامل مع هذا الكائن الجديد الذي اقتحم خلوة الفضاء المدرسي ووجد لنفسه موضع قدم داخل الفصول الدراسية، في زمن العبث والوقاحة والانحطاط الأخلاقي والإفلاس القيمي.واقعة “الطوبة” مرت في صمت كسحابة صيف عابرة، ولم نجد بدا من العودة إليها على مضض، لنوجه – من خلالها – البوصلة بأكملها، نحو جائحة العبث التي امتدت إلى الكثير من المدارس العمومية عبر التراب الوطني، وبشكل خاص نحو حجم المعاناة التي يتقاسمها نساء ورجال التعليم داخل الفصول الدراسية، في ظل تواجد “عينات” من “التلاميذ” العابثين والمتهورين واليائسين والمنحطين من أمثال “التلميذ القادوسي” الذي ربما ينتظره مستقبلا مشرقا في ترويض “الطوبات” وربما تدريسها “علوم القادوس”، وتزداد المعاناة تعقيدا في ظل استفحال ظاهرة الاكتظاظ، التي تقدم بدون شك، تلك البيئة المناسبة التي تطلق العنان لنمو فطريات التهور والعبث والانحطاط داخل مؤسسات التعليمية التي فقدت الكثير من التأثير والجاذبية والحزم والعزم، مقارنة مع سنوات الزمن الجميل. “مخرج” أو “مخرجو” شريط “الطوبة”، مكانهم الطبيعي هو ساحة “جامع الفنا” بمراكش أو ساحة “الهديم” بمكناس، وساحات تاريخية من هذا القبيل، قد تطلق العنان لهؤلاء العابثين لتقديم فرجة مجانية للجمهور حول فن ترويض “الطوبات”، أو تمكينهم من فضاءات لتقديم دروس خصوصية لهذه “الطوبات”، التي قد تناضل مستقبلا دفاعا عن حقها في التعلمات بما أنها نجحت في اقتحام خلوة المدرسة، وتقاسمت مع التلاميذ فضاء الفصل الدراسي ولو على مضض، أما المدرسة والدراسة والقسم والتعلمات، فهذه عوالم تربوية وأخلاقية وقيمية وإنسانية، لا مكان فيها لصناع فرجة العبث والتهور والانحطاط، أما من يجيد ترويض الفئران و”الطوبات”، فمكانه الاعتيادي هو صناعة الفرجة عن طريق “الطوبات” بالساحات العمومية على غرار من يصنع الفرجة بواسطة “القردة”، أو الاستعانة بخبرته “غير المسبوقة” في حماية الشوارع من الفيضانات في مواسم الشتاء، على غرار ما قام به “علال القادوس” قبل سنوات، لكن “علال” حركته “الغيرة” و”المسؤولية” و”المبادرة المواطنة”، بينما مروض أو مروضو “الطوبة” حركتهم نعرات إن لم نقل “دودة” العبث والوقاحة والانحطاط والانفـلات. وفي هذا الإطار، لن نخوض في تفاصيل العقوبات التربوية التي تكون قد صدرت في حق هؤلاء “الطوباويين” (نسبة إلى الطوبة)، احتراما لقرارات المجلس الانضباطي الذي يفترض أن يحاط بكافة شروط الاستقلالية لاتخاذ ما يراه مناسبا من العقوبات، قياسا لخطورة وجسامة الفعل المقترف وتداعياته المباشرة على واقع حال المدرسة العمومية التي ضاقت ذرعا من المشاكل والأزمات، ولم تعد قادرة على تحمل أفعال عبثية من هذا القبيل، لكن بالمقابل، نستطيع القول أن أفعالا عبثية من هذا القبيل، تقتضي أن يتم التعامل معها بما يلزم المسؤولية والحزم والصرامة، ليس فقط لأنها تنتهك حرمات الحرم المدرسي، وتسهم في إشاعة ثقافة التفاهة والسخافة داخله، بل ولأنها تعد إساءة للمدرسة العمومية ومساسا بصورتها، وتعميقا لبؤرة ما تشهده من مشكلات متعددة المستويات، ومسا خطيرا بحق الآخرين (التلاميذ) في بيئة مدرسية وتربوية ملائمة تدور معها عجلة التعلمات في إطار من الانضباط والأريحية والإنصاف وتكافؤ الفرص. إذا كان “المال السايب يعلم السرقة” كما يقول المثل الشعبي، نرى أن التهاون في فرض هيبة واحترام الأنظمة الداخية داخل المؤسسات التعليمية، والتقاعس في نهج مقاربة الحزم والصرامة تجاه بعض النماذج من التلاميذ العابثين والمتهورين، أو الاستمرار في إنتاج المذكرات “المحتشمة” و”الخجولة” ذات الصلة بمعالجة السلوكات اللامدنية داخل المؤسسات التعليمية (مذكرة البستنة نموذجا)، كلها عوامل من ضمن أخرى، تفتح شهية العبث وتسيل لعاب الانفلات داخل الحرم المدرسي، وفي ظل هذا الواقع التربوي المقلق، باتت مهنة المدرس، مهنة آهات وأوجاع ومعاناة مستدامة، تحضر جزئياتها الصغيرة في العنف بكل تمظراته، الممارس ضد نساء ورجال التعليم واستفحال معضلة الغش المدرسي، و”الكلام الساقط” و”الحلاقات المثيرة للانتباه” و”السراويل الممزقة” و”استعمال الهواتف النقالة” في الغش، وشيوع ثقافة انعدام المسؤولية والتهاون والتواكل وعدم الاهتمام وانعدام الجاهزية والدافعية، وكلها مشاهد من ضمن أخرى، لن ننتظر شخصا ليروي لنا تفاصيلها، فنحن نعاين صورها كل يوم بل وكل حصة دراسية بحكم واقع الممارسة، وتزداد الرؤية غموضا وإبهاما، في ظل الغياب التام لكل شروط التحفيز(أجور محتشمة، غياب التعويضات عن المهام، بؤس نظام الترقي، غياب وسائل العمل، الاكتظاظ، تقادم المناهج، كم البرامج، بؤس بنيات الاستقبال …). واقعة “الطوبة” قد نختلف حول الأسباب المتحكمة فيها، والتي وبدون شك، يتقاطع فيها الذاتي بالموضوعي والنفسي بالاجتماعي والأخلاقي بالقيمي والداخلي بالخارجي، لكن، لايمكن إلا مواجهتها بما يلزم من التنديد والإدانة والرفض، لما لها من انتهاك لحرمة المدرسة العمومية ومن مساس خطير بالحق في التعلم، ومن إسهام في إشاعة ثقافة البؤس والوقاحة والتهور والانحطاط، داخل فضاءات تربوية، لايمكن تصورها إلا داخل نطاقات التربية والنبل والقدسية والرقي، ومن غير المقبول أن يتم التعامل مع الواقعة بنوع من المرونة أو التجاوز أو بمنطق “عفا الله عما سلف”، أو يتم الاجتهاد في محاولة إيجاد “مبرر” لها، تحت يافطة ضمان “الحق في التعلم” ومراعاة “مصلحة التلميذ”، لأن من يتجرأ على “الطوبة” ويخفيها داخل “الشكارة” ويطلق لها العنان داخل الفصل الدراسي بدون خوف أو حرج أو حياء، لا تتوفر فيه أدنى شروط “التلميذ”، إن لم نقل “ليس تلميذا”. واقعة “الطوبا” وإن كانت تسائل في مجملها واقع حال مهنة المدرس في زمن البؤس الأخلاقي والقيمي، فإنها تشكل مرآة عاكسة لجائحة العبث التي باتت تهدد المدرسة العمومية، وهذه الجائحة المقلقة تقتضي أكثر من أي وقت مضى، الرهان على “تلقيح” الصرامة والحزم، حرصا على حرمة الحرم المدرسي وعلى ضمان الحق في التعلم لجميع التلميذات والتلاميذ في إطار من الأمن والراحة والطمأنينة والمساواة والإنصاف وتكافؤ الفــرص، وإذا كان لامناص من الاتفاق على ضرورة مراعاة “المصلحة الفضلى” للتلاميذ وعلى ضمان حقهم في التعلم، ففي نفس الوقت لايمكن إلا أن ندين أي سلوك متهور أو تصرف أرعن من شأنه المساس بهذه “المصلحة” وذاك “الحق” ولو كان صادرا عن “تلميذ”، لذلك، لا مناص اليوم، من التحرك لتطويق الجائحة عبر محاصرة العابثين واليائسين من التلاميذ، وفرض احترام الأنظمة الداخلية وعدم التردد أو التهاون في معاقبة المخالفين، واستعجال التخلص من معضلة الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية، وإعادة النظر في المناهج المتجاوزة والبرامج الغارقة في الكم غير المبــرر، وتجويد بنيات الاستقبال وإعطاء معنى للحياة المدرسية بكل أبعادها ومستوياتها، والتفكير في بعض “الحلول المبتكرة” التي من شأنها فتح بعض المسارات التعليمية التعلمية أو المهنية لبعض التلاميذ “العابثين” أو “المتجاوزين” الذين يصعب عليهم مسايرة التعلمات لأسباب ذاتية وموضوعية لا مجال هنا للنبش في حفرياتها، دون إغفال ضرورة العناية بالجانب المرتبط بالدعم النفسي والاجتماعي، في ظل استفحال السلوكات اللامدنية داخل الفضاءات المدرسية، وهذه الحلول التربوية، لا يمكن أن تؤتي ثمارها أو بعضا منها على الأقل، ما لم تتحمل الأسر مسؤولياتها ذات الصلة بالتربية والتنشئة الاجتماعية، وما لم تضطلع باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية بأدوارها التربوية والاجتماعية في تأطير الناشئة. في خاتمة المقال، نثير الانتباه إلى أن اختيارنا للعنوان أعلاه ، قد يرى فيه البعض نوعا من “الاستفزاز”، وقد يرى فيه البعض الآخر نوعا من “التهكم” أو “السخرية”، وقد يرى فيه البعض الثالث، علاقة زواج “غير واقعية” أو “غير منطقية”، لكنه ومهما كانت سخاوة القراءات ودرجة التأويلات، يبقى هذا الاختيار، منصتنا للتنديد بما أقدم عليه “تلاميذ الطوبة” من سلوك لا مدني لايمكن القبول به أو التطبيع معه داخل مؤسساتنا التعليمية مهما كان المبرر، وهذا السلوك، يفرض مجابهته بما يلزم من الصرامة والحزم، وإلا، لابد أن نكون من الآن، على أتم الاستعداد والجاهزية، لاستقبال القطط المتسكعة والكلاب الضالة والحمير والبغال والخيول والجمال والأرانب والديكة، وربما الثعابين والتماسيح والعفاريت …، ولا غرابة في ذلك، ما دامت “الطوبة” وصلت على مضض إلى الفصل الدراسي، وبما أنها كانت أول الواصلين إلى الحرم المدرسي، فهذا الوصول يقتضي إما استعجال تنزيل “بيداغوجيا الطوبات”، أو إشهار “بيداغوجيا الحزم” في وجه العابثين والمتهورين و “القادوسيين” و”الطوباويين” ومن يدور في فلكهم، ولا يمكن الختم، دون توجيه البوصلة كاملة، نحو الكثير من “التلاميذ” الذين تحضر فيهم معاني الحشمة والحياء والاحترام والتقدير والمواظبة والكد والاجتهاد والمسؤولية والانضباط، وهــؤلاء يثلجون الصدر، ويرفعون من جرعات الحيوية والنشاط والمبادرة والصبر والتحمل والخلق والإبداع من جانب مدرسيهم، على الرغم من غياب أدنى شــروط التحفيز، و في جميع الحالات، هناك “بون شاسع” بين من يتحمل مسؤوليته في التربية والتنشئة الاجتماعية ومن يجيد عملية “ولد وطلق للشارع” .. بين من هو “مربي” ومن هو “عديم التربية” .. بين من يحمل المحفظة ويكد ويجتهد داخل الفصل وخارجه، وبين من يحمل “الشكارة الفارغة” ويدخل فيها “الطوبة” بدل “الكتاب المدرسي” و”الدفاتر” … ويبقى السؤال المطروح كالتالي : كيف استطاع التلميذ “القادوسي” أو “الطوباوي” اصطياد “الطوبة” ؟ وكيف تجرأ على مسكها وإدخالها إلى “الشكارة” ؟ … بدون شك، إنها ثقافة “القادوس” و”الفأر” و”الطوبة” …

بقلم الأستاذ عزيز لعويسي/ المحمدية المغرب.

قد يعجبك ايضا

اترك رد