** سلسلة زمان الوصل في لقائها الثالث تحاور المبدع والمسرحي نجيب عبد اللطيف __ من إعداد الأستاذ محمد نور الدين بن خديجة

0 529

 

زمان الوصل ** بيت ضيافة ملحه الأريحية والعفوية والمحبة الصادقة .. بيت يصل الرحم الإبداعي الخلاق ..دون شقاق ورياء أو نفاق .. بيت من خلاله نتشارك ملح الذكريات الاستثنائية .. ونتبادل كؤوس العشق الحراقة بالبوح وكشف الأوراق دون لف أو دوران.. بيت للابسي دربالة الإبداع مبدأ ومنتهى ..لا يرغبون إلا في الكفاف والعفاف والغنى عن المدعين والمتسلقين والمتحذلقين والمتربصين و المتمنطقين بما هو بعيد عن منطق الإبداع فكيف وأنى لهم ولهن ولو ريشة من ريشات منطق الطير .
** زمان الوصل ** نريدها وصلا لما ينقطع بسبب الإهمال أو التناسي المر أو عدم الاعتراف بل وحتى التغييب القسري عن سابق إصرار وترصد .
** زمان الوصل ** هي زوادة بسيطة لطول الطريق ..وعكاز فيه من المآرب ما يتغلب على المشاق وما يواجه به من المصاعب ..بل ومصباح من مصابيح ديوجين النهارية حين نتعامى ونغالط ونشوش على نقطة ضوء باهرة في الأفق بل وحتى بيننا نهار مساء .
** زمان الوصل ** هو حوار حر شرط المتعاقدين حوله ومعه الصدق والمحبة والاختلاف والإبداع نسبا ومحتدا .
** زمان الوصل ** تحاول قدر الإمكان .. وقدر التجاوب أن تفتح صالونها للزوار الرائقين الصادقين ..الذين صادقوا ما وعدوا وما عاهدوا عليه .. ذاك شرطنا فقط .. ذاك ديدننا دوما وبه عرفنا وانطلقنا ونبقى .. فمرحبا بكم بكن …
—————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————————–

–1 : أول ما عرفتك أستاذ عبد اللطيف نجيب عرفتك مسرحيا على الخشبة وأنا لازلت في مقتبل عمر الشباب ..ثم توطدت علاقتنا من خلال انخراطي في جمعية الحياة المسرحية أواسط الثمانينات ..

كيف جاء الأستاذ عبد اللطيف للركح المسرحي ؟..

استطيع القول بأن اقتحام المجال الإبداعي عموما والمسرح على الخصوص ، لا يأتي خارج أسئلة القلق الوجودي ، ذاتية وموضوعية .
البداية لا تولد بدون حافزية ولا تأتي دون ممهدات ، في الأسرة في المجتمع في الشارع في المدرسة وغيرها كثير
بالنسبة لي الركح هو أول محراب اكتشفته ولم أكن أعرف أن له سدنة أو آلهة . الركح عندي بدأ عندما أدركت بأنه هو فضاء تتحرر فيه طاقاتك في التقليد و المحاكاة و تجريب مؤهلات صوتك الأولى لكي تشد إليك من يوجد حولك . بالطبع بدايات الطفولة محكومة بفعل الاكتشاف و اختراق حدود التميز عن جماعة القسم والأقران ، لهذا كانت حافزيتي قوية عندما حصلت على التميز في نشاط القراءة المسموعة وانا في قسم الخامس ابتدائي . هذه المهارة القِرائية لم تنبعث من فراغ فهي وليدة وسط محافظ كان فيه المرحوم والدي من أحسن خطباء زمانه في مساجد دمنات مسقط الرأس . هذه المهارة هي التي جلبن نظر الأستاذ العمراني محمد أمين وهو مازال على قيد الحياة ، بأن يلكزني من الخلف ذات يوم حضر فيه كمشرف على امتحان الكفاءة المهنية لأستاذنا الشمالي في مادة اللغة العربية . لما سمع قراءتي ، طلب مني الحضور إلى ورشة المسرح في إعدادية حمان الفطواكي بدمنات
من البدايات الموثقة في الذاكرة والتاريخ ،كانت على الركح حينما اكتشفنا- نحن ثلة من تلامذة قسم الشهادة الابتدائية سنة 1973 بدمنات – أننا نستطيع تقديم عرض مسرحي في حفل نهاية السنة ، فكان النص الذي الهمنا هو مقتطف من مسرحية البخيل لموليير ، اعتقد أننا عثرنا عليه في القراءة المصورة وهو كتاب مدرسي مشرقي كان يحتوي على نصوص وقصائد من مستوى رفيع ، كما كانت تتخلله رسومات تجلب ذوي ميولات فن الرسم و التشكيل. أذكر أن هذه البداية بقيت عالقة بالدهن والذاكرة لأنها شكلت معالم مستقبل توطت فيه العلاقة بالمسرح عبر مسارات أخرى وأفاق أكثر رحابة . بعدها أصبح فعل الإبداع ملازما لفعل النضال الثقافي والفني
هي البداية دائما محكومة بشرط الرغبة والإرادة في الاكتشاف و تلمس السبيل إلى إجابات عن أسئلة تتناسل دون انقطاع حسب العمر والمرحلة

–2 : وهل ترى أن الاشتغال على فن المسرح أضاف لوجودك معنى ؟ أم أن النضال مسرحيا في وضع شاذ لم يضف لك شيئا كمبدع ؟ :

الوجود والمعنى مفهومان فلسفيان متلازمان أرقا الفكر الفلسفي من أجل تجاوز التفسير الديني الميتافيزيقي لماهية الحقيقة والكون . فإذا كان الوجود بمعناه الأنطولوجي يعني كل الموجودات من حولنا فإن الوعي بهذه الموجودات هو الذي يخدد المعنى الذي نتمثل وندرك به وجودنا . من هنا أعتبر أن الممارسة المسرحية بالنسبة لي فتحت لي آفاقا معرفية لتحصيل وعي بالذات و سياقات وجودها ، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية . الممارسة المسرحية وفعلها الوازن زمن حركة الهواة ، دفعتني إلى الانفتاح على التجارب المسرحية التي لم تكن لتتطور لولا التصاقها بالتصورات والإشكالات الفلسفية .
الجميل في هذه الممارسة كونها نابعة من فعل اندفاع أعمى نحو الحياة على حد تعبير الفيلسوف شوبنهاور . ولما أدركنا أن لهذه الاختيارات سند فكري ومعرفي ، انخرطنا – وهنا أتحدث بصيغة الجمع ،لأن التجربة كنا فيها جماعة من الرفاق بدوار العسكر – في عملية تكوين ذاتي اطلعنا فيها على المدارس المسرحية العربية والعالمية . وفي هذا الإطار لابد من الإشادة بمجهودات عدة أساتذة كانوا فعلا مصدر توجيه مسرحي لنا ، فضلهم علينا لا يمكن تجاهله
من جهة أخرى لم تكن ممارستنا تفتقد لمبرر وجود ، ذلك لأنها أفلحت في تقديم عروض مسرحية كان لها حضور في المشهد المسرحي سواء مع نادي الهواة حينما كان المرحوم محمد مونين و الدكتور إبراهيم الهنائي مولاي الحسن الإدريسي وفرقة الرحالة ، من أهم أطر نشاطنا المسرحي ، أو مع الحياة المسرحية حينما اشتغلنا كفريق عمل جماعي برز فيه على مستوى التأليف الرفيق مهدي حلباس ، بالطبع كنت شاهدا على جزء من هذه المرحلة.
وفيما يخص تجربتي المتواضعة ، فكانت مع الحياة الثقافية بالفقيه بن صالح . في هذه التجربة أستطيع أن أؤكد على أنها كانت محكا حقيقيا لاستمرار مبرر وجودنا و دواعي انتمائنا لهذه الممارسة . منذ تأسيس الجمعية ، كان في تصوري المبدئي خلق فعل مسرحي شكلا ومضمونا لا ينفصل عن مشروعنا في الحياة المسرحية ، وهنا تتجلى أهمية إدراك الوجود و المعنى ، في اعتقادي ، استمرار تجربتي مع جمعية الحياة بالفقيه بن صالح لم يكن لينجح على مدى ربع قرن لولا الهدف المدمج في كل هذا المسار ، ملخصه الدفع بالإرادة المتوفرة لثلة من شباب المرحلة و جعلها تدرك أهمية اندماج الوعي بالمعرفة ، الوعي النقدي و الإدراك الواضح لواقع الزيف الذي تمرره الإيديولوجيات السائدة . أتذكر هنا حوار من مسرحية دون كيشوط يقول : ” إن أكبر عمل جنوني يقوم به الإنسان هو أن يترك نفسه يموت بكل بساطة”

جاء اشتغالي بالمسرح ،هذا مع العلم أن تكويني هو مجال التاريخ والجغرافيا ، من أجل إشباع فضولي الفني أولا ،ثم تعبيد الطريف لطاقات شابة ربما تكون هي الأخرى على خطى قلقنا الأول الذي جعل منا ممارسين حاملي مشروع .
وبالعودة إلى الشق الثاني من سؤالك حول النضال بالمسرح وما أضافه لي ، تستدعي الإجابة عن هذا السؤال العودة إلى البيئة التي تولدت منها ممارستنا الأولى ، بيئة الهواة ومدرستها العتيدة ، فيها تعلمنا أن المسرح هو على الدوام يواكب قضايا مجتمعية وفلسفية ، لا يخضع لوصاية مذهبية بقد ما يتجدر في لغة نقدية تجريبية ، منحاز للعدالة والحرية والمبادئ السامية ، لا يهادن في جرأة معالجته للقضايا و لا يتوانى في إبداع أشكال فرجوية تتجاوز المألوف . إنها مسؤولية تتطلب الفهم السليم للاشتغال في المسرح . صحيح أن الوضع اليوم ليس كالسابق بالنظر إلى سياسة التعويم والتمييع الممنهجة التي تعرفها الساحة ، مع ذلك ومن خلال ما تعلمناه في المسرح ، نقول بأن المسرح الحق هو ذلك الذي يواكب كل التحولات ويستشرف مستقبلها و ينقل تجليات أزماتها . إنه المسرح الشاهد على التاريخ والمفتوح على أسئلة لا تفسر العالم بقدر ما تسعى إلى تغييره .
من البديهي أن لا تتفاعل مع واقع ملتبس ، حينما تقرأ للعبقري تشخوف ، وتستوعب الأعمال الأخيرة للراحل سعدالله وانوس أو ممدوح عدوان أو كتابات الماغوط الساخرة أو مسرحيات جواد الأسدي أو كتابات يونيسكو العبثية وتقاربها بكتابات محمد تيمد أو مسرحية العذراء والموت للكاتب رييل دوفرمان واللائحة طويلة ، من الطبيعي أن تنخرط في كل فعل إيجابي من أجل الانتصار للقيم السابقة ؟ إذا كان الشخص مجربا لسحر الركح ، ما الذي سيوقفه أمام اقتناص فرصة الوقوف على أي مصطبة ولا أقول خشبة؟ ، لأن الخشبات في بلداتنا منعدمة ، فقط لأجل إطلاق صرخة أو نقل موقف إنساني تعكسه شخصيات نصوص المتن المسرحي

–3 : الهوس بالمسرح .. الرغبة في الاشتغال مسرحيا ..والوضع الشاذ الذي يتحرك فيه المسرح حاليا ..فأنا أعرف كثير من المبدعين الرائعين تركوا الركح قسرا ..كيف ترى حل هذه المعادلة ؟

لا أخالفك الرأي في كون الوضع المحيط بالممارسة المسرحية أصبح شاذا . بل سأضيف بأن السياقات العامة ، ثقافية واجتماعية وسياسية اتخذت وضع الالتباس والغموض حتى أننا لم نعد نفهم ما يجري حتى يقع ما يقع .”الوعي يأتي دائما متأخرا إزاء الحدث من أجل فهم ما يحدث” حسب تعبير EDGAR MORAN . العالم يتطور بسرعة فائقة و الواقع ازداد وضعه المركب تعقيد ا . هنا يجد المبدع الصادق نفسه في قلق لان آليات اشتغاله بسيطة و مساحة تحركه ضيقة ، تتسع دائرة الإحباط أمامه وهو يلاحظ هول الاحتيال الذي يعم حقل الإبداع . عالمنا اليوم في ظل العولمة تكاد تتشابه أمراضه ، لأن آليات العولمة تحرك أدواتها الداخلية قبل الخارجية ، وتحصل على استجابة سريعة في سولوكيات المجتمع . المبدع الواعي يتلقط هذه الصور و يبلورها في تعبيراته كلما تمكن من ذلك ، إنه في مقاومة وممانعة دائمة ، عبر العالم تجد من له نفس التصور وهم قلة .
لكن حينما نتحدث عن المنسحبين فإننا نلتمس لهم الأعذار، لا لشيء سوى لأن في تصورهم الحرص على ضمان صفائهم  و عدم المشاركة في الجريمة أفضل لهم من الانصياع للابتدال و المشاركة في جوقة الكذب والتزوير .
وحتى أوضح رأيي أكثر، سأردد ما قاله المرحوم سعدالله ونوس في رسالة اليوم العالمي للمسرح سنة 1996 ” مهما بدا الحصار شديدا ، والواقع محبطا ، فإنني متيقن أن تظافر الإرادات الطيبة ، وعلى مستوى العالم ، سيحمي الثقافة ، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته . إننا محكومون بالأمل ، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ ”

–4 : ألا ترى معي بأن كثيرا من المبدعين الذين ارتبطوا بحركة مسرح الهواة سابقا لم يستطيعوا التأقلم مع التحولات التي طرأت أواخر التسعينات – أقصد التحول للاحتراف – أن يتأقلموا ويعيدوا بناء ذاتهم وفق متطلبات العمل الاحترافي ..فانزووا أو خلدوا للظل بإلقاء النقد جزافا والتأسي على ماضي المسرح ؟

الحديث عن الهاوي والمحترف ، حديث ذو شجون ، ولطالما كان موضوع ساخنا في مهرجانات مسرحية خالدة . فكانت الخلاصة أن الهاوي هو المشبع على الدوام بروح الابتكار والخلق والإبداع ، وفي نفس الوقت ملتصق بقضايا التحرر و الحرية . طبعا هذا التصور المتين ، يريد أن يرجع الفهم والتأصيل للمسرح إلى أصل بداية تشكله الأولى حينما كان واجهة للنضال الوطني . فيما الاحتراف هو رديف البحث عن كسب الرزق و الفرجة المؤدى عنها . الاحتراف عندنا ، لا يمكن مقارنته بالاحتراف لدى الغرب ، حيث الممارسة مؤطرة بقوانين وتنظيمات مؤسساتية راسخة في التنظيم.
ممارسة الاحتراف عندنا ظلت وفية لروحها الأولى ، الربح والإبداع يبقى في خبر كان . لما اندمجت فيها تجربة خريجي المعهد العالي للتنشيط المسرحي ، لم تستطع الانعتاق من حالة الابتدال التي طبعت الممارسة الاحترافية إلا في تجارب محدودة كان وراءها بعض الممارسين الذين سبق لهم أن كانوا في حركة الهواة . الدافع الأساسي المحرك لهذه العملية كلها هو الدعم الوزاري الذي استطاعت الدولة أن تخترق به حصانة الهواة . فكان أن التحق بميدان الاحتراف العديد ممن نعرفهم من نشطاء الجامعة الوطنية لمسرح الهواة . والغريب أن بعضهم ظل إلى عهد قريب مسؤولا في أجهزتها المركزية .
فيما يخص المبدعين الذين فضلوا الانزواء في الظل ، يمكن القول بأن الأمر يعود إلى ما بدأنا به الحوار وهو مبدأ الإرادة الجامحة من أجل الانغماس في الاكتشاف الدائم لمعنى الحياة . حينما تغيب الإرادة ، يتوقف الفعل

–5 : الثمانينات عرفت ببروز تيارات وحساسيات مسرحية متعددة ..كالتعاطي مع مفهوم المسرح الفقير لغروتوفسكي أو التغريب مع بريخت ..أو المسرح العمالي وغيرها من الحساسيات ..في حين نرى أن تيار الاحتفالية مع عبد الكريم برشيد والذي تلقى كثيرا من النقد والسجال وأحيانا الظالم ..هذا التيار هو الذي استمر وأنتج وأبدع..ما رأيك؟ ..وما أسباب توقف الحساسيات الأخرى ؟

أعتقد أن موضة تأسيس التيارات المسرحية والحساسيات الإبداعية ، كانت محكومة بالسياقات الثقافية العالمية والمحلية ، بعضها أسس لرؤية جديدة للإبداع من أجل تجاوز القوالب الجاهزة و الاتفاق على مواصفات تميزه عن تيار فني آخر ، والبعض الآخر كان ينحو منحى الاستجابة لمنطق التقاطبات والتجاذبات السياسية ولا تجد في اجتهاده غير التكرار . في حالتنا المغربية ، وبالضبط في مجالنا المسرحي ، واكبنا عدة تيارات مسرحية ، كان البعض منها هو الإجابة عن سؤال التأصيل والتأسيس للمسرح المغربي ، من بينها مسرح الاستنبات مع محمد قاوتي ، مسرح النفي و الشهادة مع المرحوم محمد مسكين والمسرح الثالث مع المسكيني الصغير وسعدالله عبد المجيد ومسرح المرحلة مع المرحوم حسين حوري ثم المسرح الاحتفالي مع عبد الكريم برشيد .في هذا الخضم من الحساسيات ، كانت حالة الإبداع تعرف مدا وجزرا ، ونحن شباب ، كنا نتابع هذه الموجة بنوع من الارتياب ، لأن أغلبها نكتشف فيه استلهام مفاهيم هي منحوتة بإتقان في مدارس المسرح الغربي ، فكان المسرح الملحمي لبتولد بريخت والمسرح التسييسي مع المرحوم سعد الله وانوس هو أكثر ما كان يستقطبنا ، لأن مرجعيتهما الفلسفية كالماركسية و المادية الجدلية كانت تشكل غذاءنا الفكري والإيديولوجي بمعناه النقدي وليس التبريري .
تراجع التنظير في المسرح اليوم ، واستمرار الاحتفالية  هو في الأساس متصل بغياب الحاجة إلى التنظير ثم انكفاء سؤال التأسيس لصالح سؤال الفرجة والاحتفال . حتى الآن وحسب ما تأتى لي من مشاهدات مسرحية ، يؤكد لي أن ما يشتغل عليه الفاعل المسرحي داخل أغلب الفرق الاحترافية هو جانب الإبهار والفرجة المجانية أحيانا ، بالطبع لا أعمم مادامت هناك استثناءات ، في أغلب العروض قوة المضمون والنص المثقل بالمعنى والرمزية أحيانا والقضايا المركزية والوجودية …الخ، توارت لصالح الشكل الفرجوي الفج والمبتذل . من البديهي حسب تصوري أن تتخذ العملية الإبداعية هذا المنحى عندما يكون تفكيرنا موجه بمتطلبات الشباك والتذاكر ومداخيل العرض ، ثم طبيعة لجن الدعم الوزارية وميولاتها الفنية ، هذا أيضا يكرس هذا التصور الذي يتماهى في أساسياته مع مرتكزات النظرية الاحتفالية بالطبع لا أدعي بأن كل العروض هي احتفالية ، لأن هذا التيار المسرحي مهما قلنا عنه ، يبقى مسنودا إلى تنظير مسرحي يتفاعل مع باقي التيارات وله من النصوص ما هو أقوى ، ولكني أقصد ما تبقى من الاحتفالية ، مثل مبدأ المسرح احتفال وليس سؤالا ، هذا ما أقصده بطغيان التصور الاحتفالي ، في هذه الحالة ترى قليلا من الإبداع وكثيرا من البهرجة ، زاد من صخبها التوظيف المكثف للإمكانات السمعية البصرية التي كنا نتوق إليه زمن الهواة .

–6 : أعرف بأن الاستاذ عبد اللطيف اتجه فيما بعد للمسرح التربوي وأنتج فيه وأبدع ..هل هذا التوجه مجرد تعويض عن غياب حركة مسرحية جادة كما سبق الذكر..أم أن المسألة اختيار واع وبهدف ؟

لا يجادل أحد في الفضاء التعليمي هو مشتل كل المشاريع الفنية . لهذا كان اشتغالنا في هذا الفضاء من أجل ضمان استمرارية للفعل الإبداعي جمهورا وممارسين ، لم تكن في نيتنا فقط تقديم عروض بقدر ما كان هاجسنا نقل مهارات التكوين المسرحي الملازم للوعي النقدي . فالذوق الجمالي لا يتحقق بدون هاتين الركيزتين . بالطبع ساعدتنا ظروف أوسط التسعينيات لما كانت المؤسسات التعليمية تلتقي في مهرجان الثانويات زمن الوزير عبدالله ساعف ، ولما اختفى هذا المهرجان في ظروف لا نعرفها ، انقلنا بالممارسة الفنية نحو السينما . باختصار ، اشتغالنا في الفضاء التربوي كان له تأثير أيضا على ممارستنا الجمعوية ، من المدرسة تتغدى الجمعية بشباب طموح وطاقات إبداعية هي اليوم تعد من فعاليات الحقل الثقافي والنقابي وحتى السياسي . فعل النضال الثقافي الواعي ، ليس حلما ضيق الأفق ، بل هو منفتح على كل الأسئلة ، حر في الاختيارات ورحب في التعامل مع كل الحساسيات سياسية كانت ام فنية . بهذه الرؤية استطعنا ربح الرهان لمدة غير يسيرة. الفضاء التعليمي بالنسبة لي ، هو سياق مليء بالألغام ، لهذا كل الخطوات التي تقدم عليها ينبغي أن تكون موزونة بميزان العقل وحسن التدبير. أثمرت هذه التجربة نصوصا مسرحية أنجزتها مع تلامذتي وحصل بعذها على جوائز بل وجالت في الإقليم وبلغت مهرجان التربويات . هذا إلى جانب إناتجات سينمائية تربوية كنت قد أجزتها مع رفيقة الدرب فاطمة أكلاز . من الأعمال المسرحية التي وثيقت لهذه التجربة أذكر ” عندما تلتهب الذاكرة ” “رحلة الظل والعكاز ” ” حكاية شجرة ” و عندما يحكي الصغار” وهي أعمال صدرت مؤخرا عن الموجة الثقافية. ثم في السينما التربوية للفيلم قصير ” عبد الرزاق” و ” انتهى الوقت ” و ” دمعة على الرصيف ”

–7 : هناك مثل شهير يقول : ” المسرح البرلمان الحقيقي للشعوب ” مارأيك ؟

البرلمان في مفهومه المعاصر ، هو مؤسسة الشعب حيث يتم الترافع عن القضايا والإشكالات التي تعترض حقوق الناس وتحول دون وصول حقهم في التنمية . في هذه المؤسسة تتحقق حقوق الناس عبر التشريع و تنزيل المشاريع التي تستجيب لمطالب الشعب . بالطبع هذا إذا كنا نحترم الديمقراطية وإرادة الشعب . في المسرح أداة التعبير هي فن الأداء المشهدي ، وبشكل من الأشكال تأتي العروض هي الأخرى على شكل ترافع عن انشغالات وقضايا الناس ، الممثل النائب البرلماني ، يمثل الشعب ، ومن المفروض أنه يدافع عن قوته الناخبة . أما في المسرح فالممثل هو فنان يترافع عن قضايا أحيان أسئلتها تتجاوز أفق السياسي ونطاق تفكيره . المسرح أحيانا ، إذا كان ذا عمق نقدي وموقف راسخ ، من الطبيعي أن يذهب بتصوراته إلى أقاصي عمق المشكلة ، في تصوري بعد كل هذه التجربة ، المسرح ليس بيانا سياسيا جافا بلغة تقريرية ، بل هو حالة النفاذ إلى دواخل الإنسان للكشف عن غرابة واقعه المهزوم كلما ابتعد هذا الإنسان سؤال الكينونة والماهية ..

— 8 : كيف ترى من خلال تجربتك كأستاذ وتربوي موقع المسرح داخل المنظومة التربوية والتعليمية بالمغرب ..وداخل المنهاج التدريسي بالمدرسة العمومية خاصة ؟

خبرتني تجربتي المتواضعة في حقل المسرح المدرسي لما كنت ممارسا ومشرفا على نادي المسرح والمواطنة بثانوية بئرانزران ، أو كعضو لجان التحكيم لمرات عدة في مهرجانات هذا المسرح ، أقول خبرتني التجربة بأننا بعيدين كل ابعد عن فعل التكريس لهذه الممارسة بشكل منظم ومؤسساتي ، لماذا؟ لأن الفعل المسرحي يبقى على الدوام مشروطا إما بجدية الأستاذ ، الإطار المنشط ، أو بمناسبات المهرجانات التربوية . لا وجود لبنيات تحتية ولا لمحفزات معنوية أو مادية للمنشطين . لهذا بقيت هذه الممارسة مرهونة بمزاجية إدارية ومذكرات جوفاء . داخل المنهاج المدرسي ادمجوا في الثانوي نصا مسرحيا لسعدالله وانوس هو” سهرة مع أبي خليل القباني ” فلا أثر لهذا النص في الساحة التربوية . وفي درس النصوص نجد مقتطفا من نص عبد الكريم برشيد ” اسمع ياعبد السميع “. معضلة أخرى في هذه المناهج هو ضعف تحيينها وتقادمها . للإشارة لما تم إقرار مادة الثقافة الفنية في أواسط التسعينيات ، وخصص لها كتبا مدرسي ، لم يبدأ الموسم الدراسي – حوالي ثلاثة أشهر الأولى – حتى تم إلغاؤها بسب غياب أطر متخصصة لتدرسيها ، نها سياسة الارتجال بكل المعايير .
حاليا تم إحداث أكاديميات الفنون متخصصة في الفنون الشكيلية والمسرح والسينما والموسيقى ، أسندت مهمة التدريس فيها لأساتذة تتوفر لديهم بعض من شروط التخصص، لكن لحد الساعة لم يتم تعميم هذه التجربة على كافة النيابات ، ثم إن حصص التدريس فيها لا يمكن أن نقول بأنها قد تفيدنا في خلق شباب واع بهذه الممارسة ، لتبقى هذه التجربة رهينة حافزية بعض الأطر المدرسة ومدى إيمانها بالمشروع الفني والمجتمعي .

— 9 :ماذا تمثل لك الأسماء التالية ؟

** محمد مسكين :
رجل مسرح النفي والشهادة ، قتله النزيف لما وجد أن سيفه الخشبي ضاع وسط مهرجان المهابيل . رجل فلسفة وحلم مسرح يوثق للمأساة ويشهد عن واقع الجراح

**المسكيني الصغير:

في مسرحه الذي سماه بالمسرح الثالث ، ظل المسكيني الصغير حاضرا بنصوصه التي تمتح من التراث ، لكن أجمل نصوصه التي قراتها له هي نص ابحث عن رجل يحمل عينين فقط

** حوري الحسين :

الرجل الذي قتلته المرحلة كما ردد الكاتب المسرحي الرفيق مهدي حلباس . لو قد لهذا الرجل أن يبقى لوجدنا كاتبا عالميا يتقن صناعة الفرجة بمعنى عميق . كا من السباقين لاشتغال على الرواية في المسرح ، نموج الأشجار واغتيال مرزوق

** الطيب الصديقي :

ملهم حقيق في كيفية استخراج الأشكال الجمالية من عمق نصوص تراثية ، لم يكن على توافق مع حركة الهواة ، لأنه كان يعول عليهم بثقافته المسرحية ، لهذا لم يسلم من نقدهم حنة وهم يستلهمون بعضا من إباداته في تأثيت الفضاء وبناء الشخصيات .

** مهدي حلباس :
رفيق ، خبرنا معا دروبا شتى ومغامرات إبداعية جميلة ، تعلمنا معا كيف نكيف لحظات العناء والشقاء ونصوغها في أحاديثنا المسرحية . رجل إبداع ، تمثيلا وتأليفا ، شاعر قادم من مآسي الإغريق إلى تخوم دوار العسكر حيث اعتصرنا أسفلت الأزقة ومزجناها بعرق الأداء المسرحي . تقاسمنا تجارب و تشاركنا أحلاما هي حية فينا حتى اليوم .

** عبد القادر منير :
ملح ضحكتنا العميقة ، فنان مهووس بالتجريب ، خيال فسيح حد ، وتداعي يمنحك الاسترخاء و السكينة . ممثل متكامل ، لكن للأسف لم يعد يحب الخشبة كما كان. رجل طيب كما شخصية أبي ذر الغفاري التي أداها في مسرحية رحلة الرجل الطيب للمهدي حلباس

** المرحوم محمد مونين:
كا أبا لنا في أرض الأسقام ، لم نحب أحدا غيره ذات زمان ، لماذا؟ لأننا كنا نجد فيه سعة الصبر على شغبنا الأول ونحن شباب . لم نقتل أبانا كما يفعل الآخرون بقدر ما غادرنا البيت وتركنا مفتاح باب القلب مفتوحا حلى حبه . لهذا نذكره كلما تحدثنا عن مساراتنا المسرحية. كان كريما معنا ولو اختلفنا معه في كيفية إدراكنا للوقائع والأشياء

مع الاعتذار لأسماء كثيرة لا تخفى مكانتها وأهميتها داخل تاريخ الحركة المسرحية المغربية .

كلمة أخيرة لقراء ” زمان الوصل ”
لا يسعني إلا أن اشكرك ومن خلالك سلسلة زمان الوصل وقرائها ، ارجو أن أكون من خلال هذا البوح الجميل قد سلطت الضوء على بعض من جوانب حركتنا المسرحية وبعض من زواياه المنسية . كامل التوفيق للمجلة في مشروعها الثقافي الواعد. وأرجو أن تتوفق في نفض الغبار على الذاكرة المنسية ، ذاكرة النضال الثقافي بصفة خاصة.

أجرى الحوار : الشاعر محمد نور الدين بن خديجة
10 يونيو 2019 المغرب مراكش .

 

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد