متحف الفن الإسلامي بالدوحة.. سفر عبر التاريخ والفن والعمارة

0 609

عبر تفاصيل معمارية كثيرة تتمتع برقي وحداثة جاذبة، وتنفتح، بغير قليل من البذخ، على روح العمارة الإسلامية في أساليب نسجها وتوليفها بين الأشكال الهندسية؛ من مثلثات ومربعات ودوائر ومثمنات، وفقا لقاعدة “السهل الممتنع”، وأيضا في احتفائها بالضوء الغامر لأشعة الشمس، يحمل متحف الفن الإسلامي بالدوحة زائريه في سفر بهي عبر التاريخ والفن والعمارة.

سفر يرسم توليفة عجيبة وحوارا خاصا، من جهة ما بين عراقة الفن الإسلامي في جانب من قواعد فن العمارة وبمعيتها الدلالات التاريخية والفنية والثقافية للتحف المعروضة، ومن جهة أخرى ما بين حداثة الرؤية المعمارية في إنجاز هذا الصرح، واستلهامه لبعض تلك القواعد العريقة، والحضور البارز لأساليب مستحدثة في مسرحة عرض التحف الفنية.

يتربع المتحف الإسلامي، الذي افتتح في 22 نونبر 2008 ، فوق جزيرة صناعية عند جنوب كورنيش الدوحة على مساحة 35 ألفا و500 متر مربع، غير بعيد عن الشاطئ إلا بنحو 60 مترا، لكنه بعيد بما يكفي عن كل تمدد لحركة عمرانية قد تخفي معالمه وتميزه المعماري الهادئ بقلب المدينة المتنامية حركة تحديث إعمارها.

كان ذلك بالضبط هو ما حرك اختيار موقع الإنجاز لدى مصممه المهندس الصيني المولد الأمريكي التكوين آي .إم .باي، أحد رواد التصميم المعماري المعاصر، الحاضرة لمساته المعمارية الوازنة عبر العالم، خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال تصميمه لهرم ساحة متحف اللوفر بباريس، وانجازه لمتحف “ميهو” المميز لمدينة شيغاراكي باليابان، وملحق المتحف التاريخي الألماني ببرلين، ومتحف دوق جان للفن الحديث بلوكسمبورغ، ومتحف سوزهو بالصين.

لا تكاد تغفل عين الزائر، كيفما كانت ثقافته، ذلك الحضور والانسجام الراقي ما بين عراقة فن العمارة الإسلامية والتدفق الحداثي لفن العمارة المعاصر، من خلال ما اعترف مهندس هذا الإنجاز نفسه، بأنه تولد عبر استدعاء فني ثري لأسلوب عمارة جامع احمد بن طولون بالقاهرة (876 -879)،؛ باعتباره يمثل “الجوهر الأصيل للعمارة الإسلامية” بما يكاد يكون، برأيه، ووفق ملحوظة تقنية من متمكن في مجاله، “تعبيرا تكعيبيا عن الانتقال الهندسي من المثمن الى المربع ومن المربع الى الدائرة”.

يستقبل متحف الفن الإسلامي زائريه عبر ممشى رئيسي تصاعدي تصطف على جانبيه في تراص متوازي أشجار النخيل، محفوفة في خطي تراصها بمدرجات انسيابية، ويتوسطه ممر مائي دائم التدفق، تتواجد عند منطلقه نافورة، وينتهي بجدار رخامي يحمل اسم المبني، ليسلم الزائر بعده الى فضاء أوسع تتربع ضمن حيزه، وعلى اتساع أرحب، نافورة بقاعدة ثمانية الأضلاع وتدفقات مائية متعالية تتراءى من بعيد.

يحمل قيظ صيف الدوحة في درجاته المائوية الخمسين الزائر على تسريع الخطى لطي المسافة الطويلة التي تفصل مدخل حديقة المتحف وممشاه عن المدخل الرئيسي، وملء العين رحابة مياه الخليج الأخاذة، وخضرة الحديقة البديعة التصميم والمترامية الأطراف، بينما تطل غير بعيد في الخلف مدنية الدوحة في بذخها المتوهج.

وما يكاد يعبر الى الداخل حتى يكتشف أن ما كان معبره الى المبنى؛ بإطلالاته الفريدة، مصمم على هيئة جسر صاعد تحيط به المياه عند أطرافه السفلى القريبة من المبنى، بينما يوجد عند يمينه، وعلى بعد مسافة غير هينة وارتفاع أدنى، جسر بسقف مغطى، يربط الحديقة بمدخل جانبي للمتحف يفضي الى الردهات المؤدية الى المكتبة وقاعة المحاضرات.

وبمجرد ما يدلف الزائر الى داخل المبنى، الزجاجية ابوابه والمتحركة انبلاجا وانغلاقا تلقائيا عند محاذاتها، يتلقفه هواء بارد منعش يزيح عنه عناء حر الخارج، ويضعه في حضرة المكان وهيبته.

يحتار الزائر، في إطلالته الأولى، بين كثرة ما يعبق به المكان من تفاصيل، لكن الأسلوب المعماري الهادئ، البعيد عن التعقيد والمتوج بالفخامة في رسمه للكثير من الجزئيات، والحاضن، في نفس الوقت، للخط المعماري الإسلامي في أساسياته، يمنحه ارتياحا خاصا وقدرة سلسة على الاكتشاف والتذوق. هيبة المكان وجماله تتسرب الى قناعة الزائر، بدءا من رحابة الفضاء الداخلي وانفتاحه على مياه الخليج العربي عبر نافذة زجاجية ضخمة يصل ارتفاعها الى خمسة وأربعين مترا، مرورا بالعلو الشاهق للسقف المنتهي بقبة زجاجية مصفوفة على نحو دائري وبتصميم ثماني الأضلاع، إمعانا في غمر الردهة الوسطى للمبنى بمزيد من الضياء الفائض عليها أصلا من المساحة المتسعة لبلور النافذة، التي تتيح أيضا رؤية أفقية لمحفل البنايات والأبراج الشاهقة لمدينة الدوحة وهي تعيش حداثتها بوتيرة متسارعة ونابضة بالتحدي.

كما تزداد هذه الهيبة رسوخا حين تطالع الباحث عن حميمية المكان، وهو يشرئب ببصره الى الأعلى، ثريا معدنية ضخمة الاستدارة مكسوة بالنقوش المخرمة تنحني من السقف لتحتضن فضاء البهو ككل. وتستدعيه غير بعيد من محيط النافذة الرئيسية، الوحيدة للمبنى، موسيقى انسيابية الماء وهي يواصل تدفقه بحيوية من قلب نافورة متشحة برخام أسود شديد اللمعان. تنبعث من حوافها مثلثات ذهبية ضمن انتظام سداسي الأضلاع يتوسط تدرجا زخرفيا، يحيل الشكل النهائي لحاضنة النافورة الى قاعدة بثمانية أضلع أيضا في اتساق تقابلي مع قبة السقف.

وبجوار النافذة، وعلى وقع سمفونية التدفق المتواصل للنافورة بسواد رخامها البارز، وسط أرضية وجدران المكان المائل رخامها الى بياض تتخلل خلفيته خطوط رفيعة ذهبية، يوجد مقهى أعد خصيصا للاستمتاع بمياه الخليج في حركيتها الهادئة ولونها اللازوردي الأخاذ وهي تداعب قاعدة المبنى. وعلى مرمى بصر تبدو فخامة المكان من سلمين متوازيين ينحدران على نحو حلزوني من الأعلى قبالة البلور الشفاف المطل على مياه الخليج.

وقبل أن تصعد الى قاعات العرض الدائمة في الطابق الأول تطالعك عن اليمين قاعة العروض المتجددة وقبالتها صالة متسعة لعرض التذكارات والهدايا المتاحة للبيع، وخلف السلمين أبواب زجاجية مكسوة بالمعدن تحيل الى فضاءات متسعة تحتضن مجموعة من الفسقيات المنتظمة التصميم، المتنوعة تدفقات مياهها وأصوات خريرها، والتي ما إن يتوسطها الزائر حتى يحيطه رذاذها بنسيمات تخفف من اتقاد لهيب الشمس؛ متضامنة في ترحابها مع هبات نسمات محتشمة من مياه الخليج، وهي تغزو الناظر إليها برحابتها وهدوئها اللافتين.

وفي قلب صالات العرض، التي صممها المهندس الشهير الفرنسي جان ميشيل ويلموت، الشهير بأعماله المتميزة في كل من متحف اللوفر بباريس ومتحف الفن والتاريخ بامستردام، تحضر احتفالية خاصة لمسرحة العرض عبر اسقاط الإضاءة بالقدر اللازم لإبراز التحف داخل حالة خفوت كامل للضوء في محيط الصالات، التي اعتمدت في مواد تكسيتها الألوان الداكنة، إمعانا في الاحتفاء بالمعروضات.

بذلك القدر من توزيع الإضاءة ونوعيتها والتحكم في أسلوب العرض وطبيعة المعروضات والمساحة المتاحة لكل قطعة في علاقتها بباقي القطع الأخرى، تستدعي واجهات العرض الزجاجية، الجانبية منها أو المثبتة في الوسط والمتفاوتة الأحجام، الزائر الى تركيز الاهتمام رأسا على المعروضات في كافة جزئياتها وتفاصيلها، استرشادا ببطائق المعلومات المصاحبة لها.

تتكون صالات عروض المتحف من ثماني عشرة غرفة موزعة على مستوى طابقين ونصف طابق ضمن مساحة تصل الى خمسة آلاف متر، فضلا عن 700 متر مربع أخرى مخصصة للمعارض المؤقتة.

وبدءا بالصالة الأرضية للعروض المتجددة، كان الموعد حضورا متميزا، من 15 مارس وإلى غاية رابع نونبر المقبل، لمعرض زخارف وأعمال حرفية من تركيا وإيران والهند تحت شعار “نسيج الإمبراطوريات.

أما صالات العروض المتاحة للزيارة بالطابقين العلويين فتوزعت معروضاتها وفقا ل”ثيمات” تشمل “التصوير الحي في الفن” و”فن الخط” و”الأنماط الزخرفية” و”العلوم في الفن”، فضلا عن فضاءات لعرض مخطوطات وأعمال خزفية ومشغولات من المعدن والزجاج والعاج والمنسوجات والخشب والأحجار الكريمة، ممثلة لفترة زمنية تصل الى 1400 سنة؛ تبدأ من القرن السابع الميلادي الى غاية القرن العشرين، وتمتد جغرافيا عبر دول بالشرق الأوسط واسبانيا والصين، لتنسج بذلك سفرا ثريا بالدلالات عن تدفق حركية التاريخ في ما بقي مجسدا منها في فن ابتكار أدوات العيش وأساليب العمارة وبناء الحضارة واستجلاء حب الحياة والرقي بالتذوق.

(زهور السايح )

قد يعجبك ايضا

اترك رد